يعد الهروب منهجية يلتزم بها البعض انطلاقا من مفاهيم يتساير معها وفق آلية معينة في فكره، ولعل تعريف هذه الكلمة يقودنا إلى دلالات أوضح.
فالهروب من هرب، والهرب هو الفرار، وفرار الإنسان هو إذا جدَّ في الذهاب مذعوراً أو غير مذعور، أي كان له قرار في أمره هذا ([1]) .
أما تعريف الواقع: فإنه من وقع، والواقع الذي ينقر الرحى وقعه والحاصل فإنه يستخدم للطّحَنْ فما يطحن شيء بالرحى إذا ما طبق الواقع على الرحى، والوقائع هي الأحوال والأحداث ([2])، فنلاحظ أن المعنى اللغوي للعنوان إنما يدل على العزيمة والإصرار على الفعل، وهو الهروب من أمر كان لازم الحصول ولكن!
عن أي واقع نلمح هنا؟
قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}([3]).
في المنهج الفقهي يستخلص الفقهاء عدد من الدلالات العقائدية عن طريق الأدلة النقلية والعقلية لمحاجة الرافضين للواقع الذي يعيشون، فنرى أنه سبحانه وتعالى ما احتاج إلى أن يثبت وجوده للعباد إلا بعناد وجحود البعض المنكر لذلك الأمر، فكانت هذه الآيات البينات التي لا تدخر سبيلًا للمحاججة والاقناع، لذا فإن الابداع في التعداد والمراعاة في الوصف واللطف في العرض دون الدخول في التفسير يقودنا إلى ملاحظة:
1- أنه تعالى يصف عالم ممكن بالنظر، وغير ممكن من حيث أننا لا نعرف كيف خلقت السماوات والأرض وكيف تزامنت مع الزمن من حيث اختلاف الليل والنهار وما يحوي هذا الأمر من أبعاد زمنية وفلكية وموسمية، حيث يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}([4]).
2-الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، فالممكن أن هنالك سفن تسير في البحار من أجل التجارة والفائدة المادية والاجتماعية، وغير الممكن هو عدم معرفة كيف صنعت هذه البحار بعمقها وماهي الحياة التي في داخلها على الرغم من التطور العلمي الذي توصل إليه العلماء في يومنا هذا إلا أنهم ما وصلوا إلى قرار بشأن ذلك الأمر، والقول هنا هل من الممكن أن ندخل مكاننا دون أن نعرف عنه كلّ شيء؟
3-يبين دورة الحياة التي بدأت من الماء: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}([5]).
4-تصريف الرياح والسحاب المسخرين بين السماء والأرض، وأما التصريف فهو صرف الرياح من حالة إلى حال ([6])، أما سخر فتعني سياقه إلى الغرض المختص قهراً ([7]) ، فهو إبداع بلاغي يشير إلى الصانع لكل ما ذكر وأكثر.
5-وأخيراً فإن كل ما مر بنا من آيات فإنه تعالى يختص بها الذين يعقلون سبحانك ربي، فهي علاقة متلازمة لزوم تكويني للخلق، أن يجعل التفاعل بين العقل والقلب لينظر العقل ويعقل القلب، ولعل الآيات كثر لا يسعنا أن نذكرها كلها، ولكن نجمل ما يتيسر ويفيد البحث، فقد قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}([8]) .
جاء في تفسير هذ الآية الكريمة عدة آراء نجمل منها:
1-طرح التساؤل بصيغة التعجب أفلم يسيروا في الأرض فيروا ما فيها من عبر وشواهد على عظمة الخالق ([9]).
2-عن الصادق (عليه السلام) يقول: ((معناه أولم ينظروا في القرآن فتكون لهم قلوب يعقلون بها ما يجب أن يعقل أو آذان يسمعون بها ما يجب أن يسمع فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور عن الاعتبار أي ليس الخلل في مشاعرهم وإنما أنفت عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد)) ([10]).
3-عن السجاد (عليه السلام): ((إن للعبد أربع أعين عينان يبصر بهما أمر دينه ودنياه وعينان يبصر بهما أمر آخرته فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح له العينين اللتين في قلبه فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته وإذا أراد الله به غير ذلك ترك القلب بما فيه)) ([11]).
4-وعن الصادق (عليه السلام) كذلك: ((إنما شيعتنا أصحاب الأربعة أعين عينان في الرأس وعينان في القلب ألا وأن الخلائق كلهم كذلك ألا إن الله عز وجل فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم)) ([12]).
فإذا كان الله تعالى قد فتح أبصارنا وأعمى أبصار الخلائق فلماذا الهروب من هذا الواقع إلى عالم مغاير؟ ولعنا نجيب بقوله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} ([13]).
قال الراغب الاصفهاني: ((الرين صدأ يعله الشيء الجليل))([14]).
أي صار كالصدئ على قلوبهم الجليلة النقية المؤمنة بالفطرة، فعمي عليهم معرفة الخير من الشر، فران ما كانوا يكسبون وهو الذنوب ريناً على قلوبهم، وهو حيلولة الذنوب بينهم وبين أن يدركوا الحق على ما هو عليه ([15]).
وبذلك يتبين لنا الآتي:
أولا: إن للأعمال السيئة نقوشا وصورا في النفس تنتقش وتتصور بها.
وثانيا: أن هذه النقوش والصور تمنع النفس أن تدرك الحق كما هو وتحول بينها وبينه.
وثالثا: أن للنفس بحسب طبعها الأولي صفاء وجلاء تدرك به الحق كما هو وتميز بينه وبين الباطل وتفرق بين التقوى والفجور ([16]).
لذا فإننا لو فسرنا حالة الهروب من الواقع فلن نجد أبلغ مما أشرنا إليه في النصوص القرآنية المباركة، فالميل إلى الهوى والركون إلى الظلم والاكتفاء بعالم الضلال، واللامباليات في تحصيل المعارف الربانية المرتبطة بالعترة الطاهرة تصدئ تلك القلوب الطاهرة التي خلقت لترى نور الله تعالى في أوليائه ولتستمد منهم النور الذي تبصر بها القلوب والعيون وكل الجوارح ما ظهر منها وما بطن، فأي واقع يهرب منه العباد وأي طريق يسيرون فيه؟.
يقول تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} ([17]).
إن التغافل عن وجود حساب وآخرة ويتبعها جنة ونار عن عمد أو غير عمد هو قرار يتخذه الإنسان، فيقوده إلى عالم محجوب عن العالم الحقيقي الذي يجب أن يعيش فيه، وهو بذلك يخسر الامتيازات التي وهبه إياها ربه، فالكون يعج بالآيات البينات وعلى المرء أن يشغل عقله بحقائق الأمور قبل ظاهرها فليس كل ما يرى هو نافع بحد ذاته ولا يقبل التأويل، فالسماء الزرقاء، والأرض الخضراء وحقائق كثيرة لا يسعها النظر بالعين المجردة، ولعلنا نستعين بقول أمير البيان علي (عليه السلام) عندما سأله رجل يقال له ذعلب ((ذو لسان بليغ في الخطب، شجاع في القلب، فقال: يا أمير المؤمنين، هل رأيت ربك؟ قال: ويلك يا ذعلب! ماكنت أعبد ربا لم أره. قال: يا أمير المؤمنين، كيف رأيته؟ قال: ويلك يا ذعلب! لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان)) ([18]).
فالرؤيا ليست بالعيون وإنّما بإيمان القلوب التي فطِرَت على التوحيد، فلِمَ الهرب من هذه الحقائق ومن واقع أراده الله تعالى أن يكون للعباد ليحفظ به كرامتهم وعزتهم ووحدتهم؟ وإن كانت الحياة دار ابتلاء إلّا أن أعظم ابتلاء فيها هو الجحود ونكران نعم الله تعالى.
المصادر والمراجع
القرآن الكريم
-
ابن منظور، محمد بن مكرم بن علي بن أحمد بن حقبة الأنصاري الأفريقي، لسان العرب
-
الراغب الاصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد المفردات في غريب القرآن، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، نشر: دار القلم الدار الشامية –دمشق
-
الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
-
الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
-
الفيض الكاشاني، محسن، تفسير الصافي، ط3، مؤسسة الهادي-قم 1374ق
-
مجموعة من اللغويين بمجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، ط2، مجمع اللغة العربية – القاهرة 1392هـ/ 1972م
اضافةتعليق
التعليقات