تحمل لنا أيام عاشوراء نسائم من الذكريات بين طياتها أريج الإيثار والتفاني لصور توارثتها الأجيال عن إحياء ذكرى المصيبة الدامية في شهادة الحسين وأهل بيتهم (عليهم السلام) والتي تنطلق بكرنفال عاشورائي من أول ليلة لشهر محرم الحرام وذلك حينما ترتقي سارية القبة المباركة راية الحزن الأليم ليستنفر بعدها الموالين جهودهم الحثيثة بنثر طقوس الحزن بين رايات وتكايا اتشحت بالسواد ومواكب تستذكر الفاجعة وأخرى تنقل لنا جانبا من التكافل الاجتماعي المتمثلة بتجهيز وجبات الطعام للزائرين والمعزين الوافدين من خارج المدينة والبلاد وحتى من سكنتها، فضلا عن المواكب الخدمية والتطوعية وغيرها.
ومن بين تلك المواكب هناك موكب فاحت منه رائحة الوفاء لمن جاد بنفسه ليحضر الماء للأطفال والنساء، موكب مهيب يحمل ملامح لا تفنيها الذاكرة انبثق عطره الخالد تيمنا بالسقاء أبا الفضل العباس (عليه السلام) إنه موكب السقاية.
(بشرى حياة) كانت هناك لتنقل لكم بين سطورها جانبا عن طقوس الموكب:
تشكيلة الموكب
بنشيج يقطع نياط القلب لشيخ وشاب وصبي وطفل يسيروا في موكب السقاية، ينثرون دموع الولاء للذكرى الأليمة بتشكيلة فريدة من نوعها إذ تعفرت وجوههم بالطين يحملون قرب من الفخار يتوسط الموكب رجل طويل القامة يرتدي لامة حرب ودرع حاملا لواء ورمح وقربة، كتشبيه رمزي لشخصية أبا الفضل العباس (عليه السلام) تليه امرأة تحمل رضيع وأطفال تدور حولها يصرخون العطش... العطش أدركنا بالماء يا عماه هكذا كان مسير موكب السقاية.
صاحب الجود
حدثتنا أم مهدي/ إحدى النسوة الحاضرات في مشاهدة الموكب قائلة:
في العام الماضي شاء القدر أن أكون بين جحافل المعزين في يوم السابع من محرم الحرام ومن المتعارف أن هذا اليوم خصص للإمام صاحب الجود أبا الفضل العباس (عليه السلام) أثار انتباهي تنظيم الموكب وما يميزه من سواه فقد كان جميع المشاركين يحملون قرب من الفخار وبينهم تشبيه لفارس همام مع ارتفاع مكبرات الصوت لناعي يصور لنا مصرع حامي المشرعة تلك المشاهد تركت في نفسي شوق مزمن للحضور هذا العام لأجدد ولائي وأكون من المعزيات والمشاركات بموكب السقاية وأنا أسير بمحاذاته عن بعد فلا يمكنني الارتجال بين الرجال.
تاريخ الموكب
وكان لنا لقاء مع كفيل الموكب/ الحاج محمد جواد كاظم زنكي حدثنا قائلا:
من المعروف بأن الشعائر الحسينية المباركة كانت ممنوعة في العهد العثماني فترة طويلة وبعد تولي الوالي (علي رضا باشا) ولاية العراق كان من أتباع الطريقة البكداشية وهي إحدى الطرق الصوفية ولهم أفكار شيعية، حيث تم تأسيس موكب السقاية بعد عام ( 1832م).
وأضاف: بحسب ما يذكره المؤرخون لا يوجد مؤسس رئيسي لهذا العزاء فالذين أشرفوا على إقامته آنذاك هم مجموعة ممن كانوا يبيعون الماء وهم خليط من القوميات التي كانت تسكن كربلاء منهم الهندي والباكستاني والإيراني والأغلبية من السقائين الكربلائيين، ففي أيام العشرة الأولى من محرم يتجمعون ويقيمون عزاء خاص بالمناسبة ويسقون الماء على حب الإمام الحسين والعباس (عليهما السلام) وفي سبعينيات القرن الماضي غابت الكثير من الشعائر الحسينية إلا إنها بدأت تعيد أمجادها بعد عام 2003.
عودة ميمونة
وعن عودة الموكب الميمونة قال الحاج محمد زنكي: تيمننا بالسقاء أبا الفضل العباس (عليه السلام) أعاد الموكب أمجاده برعاية تامة وبجهود الخادمين المخلصين للحسين (عليه السلام) الحاج خلخال هادي الجليحاوي والحاج حسين مهدي كردله (رحمهما الله) قبل خمسة أعوام، حيث وافهما الأجل منذ عامين، ترك هذان الرجال ذخر لا يقدر بثمن لذويهم ولنا وهي الخدمة المباركة في هذا الموكب العظيم.
وتابع قائلا: وها نحن اليوم نسير على نفس الخطى بإحياء طقوس الموكب مواسين بذلك إمام العصر والزمان بمصيبة جده الحسين (عليه السلام) متبركين برمزية هذا العمل باسم مولانا قمر العشيرة أبا الفضل العباس (عليه السلام) كما شارك معنا جمع مبارك من الموالين والمحبين للشعائر الحسينية.
انطلاق الموكب
وحول تنظيم الموكب وانطلاقه أوضح قائلا:
ينطلق العزاء في ليلة السابع من محرم الحرام أي اليوم السادس من عاشوراء الساعة الخامسة عصرا دون تذكير حيث يحتشد جميع المشاركين قرب مقام كف العباس (عليه السلام) عند الحائر للعتبة العباسية المقدسة، وقبل البدء بانطلاق الموكب يقوم المشاركين بملء القرب بالماء ليتسنى لهم توزيعه على الزائرين أثناء المسير، المشهد الذي يثير عبرة الساقي والشارب لهيبة الموكب وهول المصيبة.
ثم يسير الموكب مرتجلا برفقته قارئ حسيني يرثي الواقعة دون توقف ليدخل باب قبلة العتبة الهاشمية من ثم الخروج إلى الحرمين الشريفين للتوجه نحو الصحن الحسيني المقدس لتكتمل هناك مراسيم الختام بعدما تنتهي الطقوس بإحياء مأتم للعزاء ثم اقامة صلاة المغرب والعشاء.
تبرع وتطوع وطقوس أخرى
ويذكر لنا الحاج محمد مساهمات المتبرعين والمتطوعين قائلا: إن القرب المستعملة بالعزاء هي بتمويل ذاتي من قبل المشاركين في الموكب، أما الملابس تكون بسيطة فلا يوجد زي خاص لموكب السقاية وإنما كان متبعاً وهو ارتداء كوفية سوداء توضع على الرأس والهميان وحمل قرب من الفخار وبعضهم يحمل أواني مصنوعة من مادة (الستيل) كتب عليها سورة ياسين وارتداء الملابس السوداء.
كما هناك طقوس أخرى ترافق الموكب وهو موكب التشابيه الذي يتطوع به موكب (هيئة الطفل الرضيع) حيث أخذوا على عاتقهم جمع الأطفال وتجهيزهم بالملابس والعناية بهم أثناء المسير.
ختم حديثه: إنه لشرف لي أن أكون من المشاركين بهذا الموكب العظيم منذ أن عادت أمجاده، نسأل من الله القبول لكل من شارك وساهم في طقوسه والرحمة والغفران لمن أعادوا إحياءه.
اضافةتعليق
التعليقات