يتوارى القمر في محاقه فترتسمُ أشباحُ الظلام في سماء المدينة، منذ تلك الليلة التي أعلنَ فيها الحسين بيانه الأول في مجلس والي المدينة: (أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجلٌ فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحرّمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله).
منذ تلك الليلة والهمُّ يجثمُ على قلوب الهاشميين، ونُذر الشر تلوحُ في الأفق، وبعد أن ودّع الإمام الحسين قبر جده المصطفى كان ذلك الوداع إيذانا ببدء الملحمة الكبرى، والخطوة الأولى بمسيرة الجهاد والشهادة .
كان الإمام الحسين عليه السلام يخطط لثورته، ويعدُّ لها عوامل النجاح، وكان من تخطيطه المتقن حدّ الإعجاز أن يصطحب معه عائلته من نساء وأطفال، هذا الإجراء الذي أثار استغراب ودهشة من لا يملك رؤية الحسين ونظرته البعيدة لعواقب الأمور .
لقد رأى أولئك النفر أن من غير الصواب والحكمة اصطحاب العائلة من نساء وأطفال في سفر نتائجه قد لا تُحمد عقباها، مع احتمال كبير للغدر، ومن ثمّ الصدام العسكري والحرب، لذا اندفعوا متسائلين أو ناصحين؛ فهذا محمد بن الحنفية يخاطب الحسين عليه السلام متسائلا :
(فما معنى حملك هؤلاء النساء وأنت تخرج على مثل هذه الحال)؟ بينما ينصحه ابن عباس بقوله: (جُعلت فداك يا حسين، إذا كان لا بد من المسير إلى الكوفة فلا تسرْ بأهلك ونسائك وصبيتك، فإني والله لخائف أن تُقتل وهم ينظرون إليك) .
فكان جواب الإمام الحسين عليه السلام: (شاء الله أن يراهنّ سبايا).
كان الإمام الحسين عليه السلام واثقا من نهايته المفجعة التي قلّ نظيرها في تأريخ البشرية؛ وما سيناله على يد أعدائه من بطش ووحشية، وما سيقع على عائلته من بعده من أسر وقسوة؛ فقد خاطب أم سلمة بقوله: (أماه قد شاء الله عز وجل أن يراني مقتولا مذبوحا ظلما وعدوانا، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشردين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا ولا معينا) !
ومع كل هذا كان على استعداد تام لتحقيق هذه المشيئة الإلهية؛ لأن قدسية الدين في نظره تفوق المقدّسات كلها، ومن أجلها يضحّي بكل ما يملك ابتداء بنفسه الشريفة، وانتهاء بطفله الرضيع .
واختارت السيدة زينب عليها السلام أن تشارك الإمام الحسين عليه السلام في ثورته، ووضعت يدها بيده معاهدة إيّاه على المضي معه حتى الرمق الأخير؛ لذا عاتبت ابن عباس عندما نصح الإمام الحسين بعدم اصطحاب العائلة:
(يا بن عباس، تشير على شيخنا، وسيّدنا أن يخلّفنا ها هنا ويمضي وحده، لا ولله بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره)؟
ولا ينبع موقفها من رابطة النسب، ومشاعر الأخوة؛ بل من موقف ديني ورسالي، ومعرفة عميقة بإمام زمانها، وطاعة له من زاوية عقائدية.
لقد عاشت السيدة زينب المحنة مع أخيها لحظة بلحظة منذ خروجه من المدينة، مرورا بمكة، وانتهاء بكربلاء، سمعته وهو يخطب بالناس ليعرّفهم أهداف ثورته، وأسباب نهضته، ولكن الثورة تحتاج إلى إعلام بعد شهادته، فكانت النهضة الزينبية التي واصلت النهضة الحسينية، وأعطتها زخما جديدا من التأثير والفعّالية .
لقد حملت السيدة زينب على عاتقها مسؤولية حفظ الثورة وإدامتها واستمراريتها؛ فكانت واجهتها الإعلامية، واللسان الناطق لها ضد إعلام بني أمية المعادي، وتضليلهم للرأي العام، وتحريفهم للحقائق بشكل صارخ، فالأمويون لم يكتفوا بقتل الحسين، بل لجأُوا إلى تشويه ثورته، وإسقاط شخصيّته بمختلف أساليبهم الماكرة .
ولقد صدّق أهل الشام كذبة خارجيّة الأسرى، وأنهم خرجوا على الشرعية، بهدف شقّ عصا المسلمين، وتمزيق وحدة الأمة لولا وجود السيدة زينب عليها السلام ومن شاركها رحلة الأسر بكل محنتها وآلامها المريرة؛ حيث كشفت الزيف الأموي، وأزالت الستار عن تدليسه وفضحته في عقر داره، وفي بلاط حكمه المشؤوم .
لقد طوت السيدة زينب وشاح أحزانها وفجيعتها التي تدمي القلوب، ابتلعت آهاتها وزفراتها وهي تسير مع أيتامها ونسوتها المقرّنين بالحبال في سكك عاصمة الحكم الأموي، تجتاز صفوف الجماهير الشامتة، يصمّ سمعها قرع الطبول، وتخفق على رأسها رايات النصر المزعوم، لم يلو عنان صبرها وقوفها في المكان الذي يوقفون فيه سبي الكفر، لتمثُل بعد ذلك أمام يزيد الطاغية بهيبة ورثتها من صلابة الحق، وعنفوان البيت الهاشمي .
واجهت يزيد وهو على عرش ملكه، وقد لعبت برأسه نشوة النصر، ونشوة الخمر وهو ينكث ثنايا الحسين بعصاه، وينشد شامتا:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرجِ من وقع الأسل
لأهلّوا واستهلّوا فرحا
ثم قالوا يا يزيد لا تُشل
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
في هذا الموقف العصيب والذي من شأنه أن يذهل ذوي الألباب تصدّت السيدة زينب عليها السلام للقيام بدورها الرسالي؛ فوجهت ليزيد صفعة جعلته يترنّح من شدتها، حطّمت جبروته، وأفشلت مهرجانه، وأفسدت ما دبّره؛ وذلك من خلال خطابها الناري الذي يُعتبر من أهم وأقوى الوثائق التأريخية، ومن متمّمات النهضة الحسينية .
لقد خاطبت يزيد بدون خوف وتحفظ باسمه المجرد من أي ألقاب (أظننت يايزيد) .
ذكّرته بأجداده الطلقاء (أمِن العدلِ يا ابنَ الطُّلَقاء)، وتأريخهم المخزي (وكيف يُرتجى مراقبةُ مَن لفَظَ فُوهُ أكبادَ الأزكياء، ونَبَت لحمه بدماء الشهداء)؟!
بينت مدى احتقارها له واستصغارها لشأنه (ولئن جرَّت عليّ الدواهي مخاطبتَك، إنّي لأستصغرُ قدْرَك، وأستَعظمُ تقريعك، واستكبر توبيخك)، عرّفته عظمة أسرتها النبوية، وتحدّته أن يمحو ذكرها، أو يدرك أمدها (فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا) .
بيّنت أن ما يتمتع به يزيد من سلطان يعود إليهم فهم قادة وسادة هذه الأمة (وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا) .
أشارت إلى ما جرى في كربلاء من وحشية وسفك لدماء العترة الطاهرة (فهذه الأيدي تَنطِف من دمائنا، والأفواه تَتَحلّب مِن لحومنا، وتلك الجُثث الطَّواهر الزواكي تنتابها العَواسِل -أي الذئاب - وتهفوها أُمّهاتُ الفَراعل).
تنبأت بقرب زوال ملكة ونهايته المحتومة (وهل رأيُك إلاّ فَنَد، وأيّامك إلاّ عَدَد، وجمعك إلاّ بَدَد).
لقد بددت السيدة زينب أوهام يزيد بالنصر؛ سحبت البساط من تحت قدميه، وهدّمت أركان عرشه الزائف، فانقلب الوضع في الشام، وعمّ السخط والاستياء حتى داخل قصره .
ولم تعد السيدة زينب إلى المدينة إلا بعد أن دقّت الأسفين في نعش يزيد، ورسمت خارطة الطريق لنهايته الوشيكة والمشؤومة.
اضافةتعليق
التعليقات