تؤدي الأزياء الشعبية التراثية المرتبطة بالعادات والتقاليد وظيفة اجتماعية معينة ومع مرور الزمن تتحول إلى قانون عرفي يمتثل لسلطانه الجميع. غير أن شكل هذه الأزياء قد يتغير مع التطورات الحادثة في المجتمع أو تندثر، ولكن تبقى الشعوب الأصيلة ذات التاريخ العريق تحافظ على أزيائها الشعبية والتي تسمو بسمو أجدادها، والمجتمع الكربلائي هو جزء من المجتمعات التي يحتضنها العراق الأصيل المتمسك في تراثه وتاريخه وأزياءه الشعبية التي حافظ عليها وما زلت باقية إلى يومنا هذا ومنها (العباءة) الذي تمسك بمضامينها وشكلها الكربلائيون.
ونحن نتجول في الأسواق أو كما يسميها أهالي كربلاء(الولاية) والتي تكون قريبة على الحضرة الحسينية والعباسية (بين الحرمين) والتي تتمتع بعراقة تاريخ مازال حاضرا، توقفنا في سوق العلاوي أمام محل التاجر علي حسين من السادة الماميثه لنسأله عن تاريخ تجارة العباءة في كربلاء فأجابنا قائلا: تاريخ العباءة قديم ويقال قبل أكثر من 4000 سنة والعراقي أول من امتهن تجارة (العبي) ولكنها اتخذت أشكال كثيرة لهذا غير معلوم تاريخها بالضبط، والعباءة السوداء بدأت من كربلاء وانتشرت فيها بعد مقدم زينب (ع) وحدوث معركة الطف سنة 16 للهجرة وانتشرت في الأوساط الكربلائية ولاقت قبولا كبيرا لأنها ترمز للحزن على أبي عبد الله الحسين (ع) وكذلك تراعي الدين والعرف الاجتماعي وقدسية المكان وتخاط (من فجتين وتغطي المرأة من رأسها حتى كعب رجلها وعريضة حتى لا يبين تفاصيل جسدها ومفتوحة من الأمام ولها ردنين).
ثم انتشرت بين الدول المجاورة على الرغم أن اللون الأسود غير محبب لدى النساء العربيات وهناك قصة تناقلها أجدادنا تثبت هذا الكلام يقال: إن تاجرا من كربلاء قدم إلى الحجاز ليبيع العباءة النسائية فلم يشترِ منه أحد لأنها كانت سوداء وبعد أن أخذه اليأس التقى صدفة بشاعرٍ كان يلقب ب(الدرامي) فنظم له بيت شعرٍ كي يحبب المجتمع الحجازي بالعباءة السوداء فانشد يقول: (قل للمليحة في الخمار الأسود...... ماذا فعلت بناسكٍ متعبدِ).
أمجد السيلاوي تاجر في سوق فيض الحسين ذكر إن: أقدم البيوت الكربلائية وأشهرها والتي تمتهن تجارة العباءة هي (بيت ماميثه، بيت طعمة، بيت شامي القربزي، بيت فارس ابو دكة...) وذكر أمجد أن أسعار العباءة في كربلاء مختلفة باختلاف القماش، فهناك بسعر 25 الف وهناك بسعر200 ألف دينار عراقي.
وحدثنا عمار آل طعمة قائلا: في السابق كانت صناعة العباءة الحرير المحلية أكثر ما يباع في الأسواق، ثم أصبح المستورد عليه إقبال أكبر مثل (زهرة الخليج، والجرجيت الياباني، الشيرمن، الحَبر الفرنسي أو الحلبي، والحرير التركي.. وغيرها)
وأوضح، الآن أغلب استيرادنا من دبي عن طريق بغداد أو طريق النجف، أما الجاهز أي ما يخاط في المصنع فهي محلية الصنع وفيها أنواع منها (عباءة ردن طويل، وصلة وحدة، بزمة كبيرة أو صغيرة).
ولا نريد أن ننهي جولتنا دون المرور على من أضافت أناملهن الجمال والبهاء على هذا الملبوس التراثي.
فكان سؤالنا إلى أم رعد وهي سيدة خمسينية تواظب على مهنة خياطة العباءة منذ صباها أوضحت إنه: في السابق كانت الخياطة نوع واحد يلبسنّها الشابات والكبيرات، ولكن الآن الشابات ترغب بالعباءة الجاهزة أي التي تخاط في المصانع وتسمى الإماراتية أو الكويتية وهي ذات أكمام طويلة مطرزة ومغلقة من الأمام وضيقة قليلا وليس مثل العباءة الكربلائية العريضة التي تراعي الأحكام الدينية لستر المرأة بشكل صحيح.
وأما عن النقشات الصغيرة التي تكون على جانبي العباءة، قالت: هي كثيرة ومتنوعة وتختلف أسعارهن باختلاف النقشة وكمية الخيوط المستخدمة وفرق الجهد فهناك (الدرازة) يكون ثمنها رخيص فخياطتها متفرقة وبدون نقش وهناك (الشيرازة) خيوطها متقاربة وفيها نقشات مختلفة وصاحبة العباءة هي من تختار النقشة مثل (شد الورد، وموج شد الورد، وسن الذيب، وحب الفلفل، وابو النمنم، أم التاج) وسابقا كانت تخاط العباءة أم البلابل وتكون بلابل من الذهب تتدلى بسلاسل على جانبي الوجه، أو بخيوط ذهبية اللون تطرز على جانبي العباءة تسمى (كلبدون) ولكن لم تعد النساء ترغب بهذه الأشكال، إلا أننا نخيط (الكلبدون) للفتيات الصغيرات لتنبهر بألوانها الذهبية وترغب بلبس العباءة منذ الصغر.
بعدها قصدنا الخياطة أم مهيمن في الثلاثين من عمرها من الأصول السورية العراقية والتي بدأت حديثها عن العباءة الديرية والتي تشبه العباءة الكربلائية إلى حدٍ ما، في الشكل واللون والقماش حتى في طريقة لبسها وهي تخيط باليد، والعباءة الديرية تشتهر بها نساء الفرات السوريات في دير الزور، وتتذكر البيت الشعري الذي يقول: يم العباية الحبر-- حلوة عباتچ -- ياحلوة يا ديرية -- زينة صفاتچ.
وأردفت قائلة: تتكون العباءة من ثمانية أمتار ونقيسها بالذراع وهو (المسافة بين اصبع الأبهام حتى رأس كتف اليد)، وسعر خياطتها بين 25 إلى 50 الف دينار، بحسب نوع النقش وخياطتها عملية يدوية وتستغرق أياما من خمسة أيام إلى أسبوع بحسب مهارة الخياطة وخفة يدها.
ختاما، العباءة الكربلائية من الأزياء التراثية التي لم تتلاشى أو تهمل، رغم تقادم السنين وتطورها، ومنذ القدم اعتاد الكربلائي أن يلبس بناته العباءة من عمر الثامنة أو العشر سنوات، فيكونن أقمار متوشحات بالسواد، وصناعتها تعد من المهن ذات المردود المالي الجيد للنساء.
اضافةتعليق
التعليقات