متى تحمل إحدى الشجرات ثماراً ناضجة ومتى تَفسُد فاكتها وتتعفّن؟ ولماذا ياترى تتفتح براعم في حديقة وتضمر في أخرى؟ وما الذي يجعل بناءً شُيّد ببراعة يتصدّع ويتهاوى حجراً في إثر حجر وآخر يعلو ويزاحم النجوم؟!.
لعلّ الجذور كانت ضعيفة، والأركان كذلك لم تشيّد على أساسٍ قوي وأرضٍ صلبة..
وهكذا مع السائر في طريق العلم، تكاد تكون نقطة البداية أهم شيء يفكر به قبل السير نحو هذا الهدف المقدّس، أين تكمن هذه النقطة، وهل هي انطلاقة حقيقية وصادقة، من الذي يحدد ذلك وكيف نعلم؟.
هناك الملايين من الطلبة في كافة المجالات وفي كل أرجاء المعمورة يدرسون ويكدّون ويتعبون وآخرون يتساهلون في هذا المطلب ولايلقون بالاً، وعليه ينجح الكثير ويرسب الكثير أيضاً، لكن وعلى عكس مايقوله العقل الجمعي عند أغلب الناس، ليست هذه هي النتيجة الحقيقية، العبرة كما يقولون في الخواتيم، نعم، لكن من الذي قال أنّ خاتمة طالب العلم الحَسَنة هي درجته النهائية وحيازته على المراتب الأولى؟!
العقول الجمعية السطحية والقوانين التعليمية الجاحفة هي التي حددت ذلك، عقول ترى نجاح الفرد في درجة امتحان ومقعد جامعي، وقوانين تؤطر قدرات طالب في مجال ما على أساس ماحصده في الاختبار النهائي فقط، في الوقت الذي قد يُبدع في مجال آخر يحبه لكن بقية المواد حالت دون هدفه..
الكثير من البلدان المتقدمة حاولت حل جزء من هذا الإشكال، وهو وضع شرط النجاح في الدراسة من أجل القبول في الجامعة، ولكن تعيين القسم لايتأتى إلا بامتحان تجريه الكلية لتعرف كفاءة الطالب في ذلك الفرع تحديداً.
وعودة إلى سؤال قيمة طالب العلم الحقيقية وهل هي درجاته _وإن كانت مهمة ومطلوبة فنحن هنا لانريد أن نجحف حق من تعب وسهر ونساويه مع الذي تهاون وغفل_، أم ماذا؟
يقال؛ "المعرفة لاتصبح قوة يعتد بها، حتى توضع موضع التجربة".
هذه المقولة أجابتنا بأنّ قيمة العلم لا تكون إلا بالعمل وليس فقط عن طريق مراحل الدراسة. فالتجربة العملية تكشف قدرات الانسان وهي التي تحدد بالحقيقة من نجح ومن فشل.
على أبواب عالم جليل ومؤسس مدارس فقهية وكلامية وإمام من أئمة المسلمين الامام جعفر بن محمد الصادق، نقف لنتعلم القليل من أصول وآداب وشروط طلب العلم وصفات مريديه وطلابه المنتجبين وسر نجاحهم وتخليد التاريخ لأسمائهم.
من الفقه وعلم الحديث والعقائد إلى الكيمياء والفلك والهندسة والطب، تنوعت الاختصاصات والمصدر واحد، زرارة وبريد ومحمد بن مسلم ومؤمن الطاق وهشام بن الحكم وجابر بن حيان وأبا بصير والمُعلى وغيرهم الكثير، كانوا ثقاة محدثين أفحموا المخالفين والخصوم في العديد من المناظرات وأضاؤوا العالم بقناديل علومهم.
وإن أردنا محاكاة ما ذكرناه عن العلم على بعض من أصحاب الامام، نتأمل الآتي:
1_ نجد أن نقطة البداية هي أهم خطوة بالفعل، فالمصدر كان من معين سماوي لاينضب، والانطلاقة كانت مع العلم الأصيل، فما الذي ميز أبو بصير عن بعض طلاب الامام من الذين أضمروا العداوة إليه وخالفوه؟
أبو بصير بدأ مسيرته مع الامام الباقر ثم الصادق حتى الكاظم، أما أولئك فمن أين بدأوا، من كان معلمهم أو قدوتهم فخاتمتهم؟
2_ حضور الجواب، البلاغة في الحديث، وسرعة البديهة وغزارة المعلومات التي كان يملكها مؤمن الطاق، أي مدرسة وأي جامعة خرّجت هذا المتكلم الحذِق؟!
لم يكن مؤمن الطاق سوى عامل في دكان للصيرفة وكانت هذه مهنته التي يرتزق منها، وقد عمل في طاق المحامل بالكوفة ولذلك لقب بمؤمن الطاق. إذن، موضع التجربة بعد دروس وحلقات الامام هي التي أعطت القيمة لعلم هذا الصحابي ولم تكن الدراسة الاكاديمية الطويلة أو الامتحانات بمعناها المعاصر من حددت ذلك بل أمور أخرى أعمق وأنجع.
3_ "العلم كثير والعمر قصير، فخذ فصوله واترك فضوله". هنا تأتي أهمية الاختصاص، المتأمل في حياة الامام وأصحابه يجد أن لكل طالب من طلابه نوع معين برع فيه، فجابر بن حيان كانت قابليته للعلم التطبيقي أكثر من غيره، فاستثمر ذلك الامام ووجهه في ذلك الطريق ورفده بكل مايحتاج إليه حتى غدا عَلماً يشار له بالبنان في الكيمياء والطب.
وأهم ماساهم في تخليد تلك الشخصيات، كانت أهمية ترويض إن لم نقل القضاء على ذلك الشيء القابع في أعماق كل انسان يطلب العلم، هناك وحش رابض، أو بمثابة نقط سوداء معدودة تتداخل مع النقاء المتمثل في العلم كقيمة مطلوبة، وهذه النقاط إن لم يتم إزالتها فسوف تكون كالسخام على العلم، هي شهوات تسيطر على كل عالم أو متعلم على سبيل نجاة، تتمحور أكثرها حول أنانية وغرور وحسد تتجلى عند من حاز بعضاً من العلم، فهنا يتكبر على عامة الناس ويحتكر بعض المعلومات له، وغيرة صامتة تصيب الكثير منهم عند نجاح أحدهم دون الاخر أو إن نال مرتبة متميزة عند رئيسهم أو أستاذهم.
ياترى ألم تغلي بواطن أصحاب الامام بالحنق عندما يعيّن الامام هشاماً ليتكلم عن المذهب رغم صغر سنه؟.
يقول الامام الصادق: فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري، ويسرني ذلك، وقيل هذا أدب جعفر أو هكذا أدب جعفر شيعته، وإذا كان غير ذلك دخل عليه بلاؤه وعاره.
إنه الاخلاص، إنه الحب والارتباط والعلاقة مع الخير المطلق، بلاشك كان أصحاب الامام بشر عاديين تترسب في أعماقهم مشاعر تنتاب الكثير، إلا أن هذا (العادي أو الطبيعي) اتصل بشيء غير عادي، اقترب منه، تشرّب من علومه، تتطهر وتنظف من أوساخ حب الدنيا، فارتقى أخيراً من توافه تشغل بعض طلبة العلم، ومع أن دروبهم اختلفت لكنها التقت عند معدن العلم والحكمة.
عندما نرى شجرة الامام مثقلة بما لذ وطاب من صنوف العلم، نعلم أنه تعب في زرعها، وقد جاهد أصحابه لنيل شرف أن يكونوا أحد ثمارها، لنقلب النظر على تلك الشخصيات، علنّا نشعر بالخجل ونعمل بعلوم أهل البيت، علّ ذاك الأمل يقترب من الشروق بعد أن طال نتيجة تماهلنا وتقاعسنا وتنافسنا على مالا يليق بأتباع أو محبي آل المصطفى محمد.
اضافةتعليق
التعليقات