الإيجابية وباء! نعم.. إنّني قلت "وباء"، يخدعك ويجعلك تحبس ألمك ومشاكلك وتلبس قناع السعادة وتدعي أنّ كل شيء على ما يرام وليس في حياتك أيّ ألم أو حزن!.
لا لا، بل أقصد أنّ الإيجابية شيء رائع بل ومذهل للعيش بسعادة وسلام وهو حافز مهم إلى درجة قهّارة للتّقدم إلى الرقيّ المخملي..
ماذا حدث؟! هل الإيجابية أمر سيء؟! أم جيد؟!
تكمن المشكلة عندما نخدع أنفسنا ظناً بأننا يجب أن نكون أشخاص مزيّنون دائماً بحُلية الإيجابية.
فالإيجابية كما أنها قد تكون رائعة في الوقت نفسه قد تعطينا الخارطة الخطأ لترشدنا إلى طريق سرابي وهمي وترهق عقلنا.
جاء في كتاب فن اللامبالاة (لمارك مانسون): "أن المبالغة في الإهتمام بذلك (الإيجابية) أمر سيء لصحتك العقلية، إنه يجعلك زائد التعلق بما هو سطحي مزيف، ويجعلك تكرس حياتك لملاحقة سراب سعادة أو إحساس بالرضا. ليست شدة الإهتمام بالحصول على "ماهو أكثر" مفتاحاً لحياة جيدة، بل المفتاح هو "الإهتمام الأقل"، الإهتمام المقتصر على ماهو حقيقي، آني، هام".
فتركيبنا البيولوجي يحتاج دائماً إلى المزيد والمزيد.. والتركيز بشيء آخر كـ بيت جديد أو زيادة جديدة في الأجر وهكذا.. ولن نكتفي!.
ومهما يكن ما يجعلنا سعداء اليوم فسوف يكف عن جعلنا سعداء غداً، وكل ما يمنحنا إحساساً طيباً سيجعلنا لا محالة نعيش إحساساً سيئاً أيضاً. وهذا الأمر طبيعي إذ أنّ هنالك قدر من التضحية ملازم لكل شيء دائماً..
فـ فكرة أن نتخلص من معاناتنا كلها إلى الأبد تعجبنا، لكننا لا نقدر على هذا!.
فالألم خيط من خيوط نسيج الحياة نفسه، وليس اقتلاعه من ذلك النسيج أمراً مستحيلاً فحسب، بل يدمر النسيج نفسه..
والسعادة تطلب جهاداً وتضحيةً من أجلها، إنها ثمرة مصارعة المشكلات، والحل كامن في قبول تلك التجربة السلبية والتعامل معها تعاملاً إيجابياً صحيحاً، وليس محاولة تجنبها أو تفاديها.
إن الطريق إلى السعادة طريق وعر، مفروش بالأشواك والخيبات، ولتصل إليها عليك أن تجتاز هذه الأشواك أولاً!. إذ هي كاللعبة المليئة بالمغامرات لها طرقها الجميلة الخلابة وفي المقابل لديها متاهاتها المظلمة المفزعة، ومن الطبيعي في طريقك إلى ما تحب ستمر بما تكره.. فلا تيأس.. إنها مغامرة مشوقة.. فلا يمكنك الفوز إذا لم تخوض فيها وتلعبها.
لا تدعي الإيجابية وأنت مُقصّر:
عندما يكون الشخص مقصّراً إتجاه شخص آخر، أو مقصر في حياته لأي سبب من الأسباب.. هل تنفع الإيجابية هنا؟ هل تنفع الإيجابية بأن أتغابى وأقول كل شيء على مايرام؟.
بل هنا يجب أن نزيحها كلياً لنرى واقعنا ونستدرك وضعنا من المشكلة ونرفع عن تقصيرنا إزاء أحبتنا وإزاء أنفسنا.
فالإيجابية الصحيحة تأتي عندما "أحل هذه المشكلات"، لا أن أقف متفرجاً وأقول أنا سعيد وأوهم نفسي كالبائس!.
ف بكبته وإنكاره لهذا الأمر سيحرم نفسه من الآليات التي تزوده بمعلومات تساعده في حل مشكلاته. وبالتالي سيواجهها طيلة مجرى حياته ولن يكون قادراً على أن يكون سعيداً!.
ولأنه غير قادر على مواجهة مشاكله مهما تكن نظرته جيدة إلى نفسه؛ فإنه شخص ضعيف. إنّ الشخص الذي يرى حقاً أنّ له قيمة كبيرة هو الذي يقدر أن ينظر إلى الأجزاء السلبية في شخصيته نظرة إيجابية؛ أي يسعى لتحسينها وتطوريها.
للألم غاية:
علينا أن نتذّكر دائماً أن "للألم" غاية! وهي بمثابة جرص إنذار “للروح" أن هنالك خطباً ما..
فالخلطة السحرية كامنة في “حل” تلك المشاكل، لا في عدم وجود مشاكل في حياتك! وفي حال لم يكن لها حل فـ هنا يجب أن تديرها باللامبالاة.
فالإيجابية المفرطة هذه الأيام أصبحت "وباء نفسي"، خلاصته أن الناس ما عادوا يدركون أن ما من مشكلة في أن تسوء الأمور أحياناً!، فالإعتقاد بأن ليس من المقبول أبداً أن يكون لدى المرء نقص ما في بعض الأحيان هو العيش في الجحيم نفسه!، وهذا هو حال الدنيا "يومٌ لك ويومٌ عليك"، لا سعادة أبديّة ولا حزن أبدي بل "إنما السعادة تتحقق فقط ببلوغ الإيمان“.
فالحزن موجود وبفضله عرفنا قيمة السعادة وبفضله اقتربنا أكثر من خالقنا.. وهو أمر إيجابي ومحبذ في شريعتنا الإسلامية.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام): "واستجلِب نور القلب بدوام الحزن". المصدر: بحار الأنوار.
بمعنى: إذا أردتَّ أن يكون قلبك نورانيّاً فاجهد لكي تكون دائم الحزن.
على ماذا يكون هذا الحزن؟ وهل كل حزن هو مطلوب؟
هل ينبغي للمرء يا ترى أن يكون حزيناً باستمرار؟ بالطبع فإنّ الإنسان الحزين لا يتمتع بالحيوية المطلوبة لممارسة العمل والنشاطات المختلفة، إذن فهل يريد الله عزّ وجلّ أن يبني مجتمعاً يسيطر الحزن على جميع أفراده؟
إنّ كل الجهود التي تبذل في الثقافة العالمية المعاصرة تهدف إلى خلق حالة من البهجة والسرور للبشر، بل وعلم النفس السلوكي الأمريكي والغربي يؤكد على ضرورة تنشأة إنسان مبتهج، وكأنّ وجود الحزن والغمّ في الإنسان هو أمر غير نافع ومنحرف.
فعل الله لا تنقصه الحكمة:
إستناداً الى الرؤية الإلهية والتوحيدية فإنه ما من شيء إطلاقاً أودعه الله فينا بحيث يكون لغواً!.
بل لا بدّ أنّ فيه حكمة. فالله سبحانه خلق للإنسان الضحك كما خلق له البكاء، وإنّ كل منهما مطلوب في محله المناسب ومفيد للإنسان.
لكن الخطأ هو من يجعل من سرور هذه الدنيا هدفاً. أو يحزن على ما فاته من أموره الدنيوية، بالتالي نحن لسنا مخلدين هنا وهذه مجرد حياة ولن تدوم، فلماذا الحزن؟.
الحزن يجب أن يكون على أعمالنا السيئة في الدنيا التي سوف يتعين من خلالها دارنا ومكاننا في الآخرة التي سوف نُخلّد فيها إلى أبد الأبد..
فهذا النوع من الحزن يدفع الإنسان إلى تجنيد طاقاته للإفادة مما تبقّى من الفرص والعمل للآخرة أفضل من ذي قبل وبذل قصارى جهده للتكفير عن ذنوبه وتركها.
فهذا النوع من الحزن لا يورث الإكتئاب والتعاسة (كما يفعل الحزن على الأمور الدنيوية) لا، بل يشكل عاملاً لرقيّ الإنسان وسموّه.
فهنالك دائماً قدراً من المعاناة لا يمكن تجنبه، والحياة مكوّنة من نسيج مختلف الألوان، فعندما تكف عن الإنزعاج من مختلف أنواع المساوئ التي ترميك الحياة بها والتي سترميك دائماً بها صدقني..! حينها ستصبح لديك "المناعة" اتجاهها.
والمؤمن لا يغتم على إدبار الدنيا له، لأنه يرى في الأفق نعماً أعظم قد هيأها الله تعالى له..
وعندما تكون قادراً على شيء من اللامبالاة اتجاه الألم الدنيوي، فحينها ستصبح شخصاً لا يُقهر ذو نفسية جبارة لا يهزها ريح.
عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
“إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا، مَا لِعَلِيٍّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى وَلَذَّةٍ لَا تَبْقَى، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَقُبْحِ الزَّلَلِ، وَبِهِ نَسْتَعِين“.
اضافةتعليق
التعليقات