عندما تُذكر كربلاء يجب أن يذكر أحد أهم أركانها ألا وهو أبو الفضل العباس، ومن منا لا يعرف قول الإمام الحسين عليه السلام عندما خاطبه (اركب بنفسي أنت) فهذه العبارة كافية لتُبين منزلة أبي الفضل العباس، فضلاً عن مُعاصرته مُعاصرة معرفة بأكثر من إمام، وقُبِّلَتْ كفيه أيضًا من أكثر من إمام، وقد شارك في دفن أبيه وتغسيل أخيه وهذه رتبة لا ينالها إلا معصوم، فلا يُختلَف في منزلة وفضل هذا البطل العظيم، الذي شارك مع أبيه مجموعة من الغزوات وهو صغير السن.
أما علمه فلا نكاد نسمع له خطب أو أحاديث تتناقلها الكتب، بل كان يروي عن أبيه وأخويه عليهم السلام، فأين علمية هذا الرجل؟
إن تزامنه عليه السلام مع مجموعة من الأئمة ومعرفته بهم وأدبه، جعله لا يُظهرْ علمه فكما الأئمة عليهم السلام جميعهم عاصروا آبائهم أو إخوانهم فكانوا لا يُظهرون علمهم إلا بعد تسلمهم للإمامة احتراماً لمن في هذا المنصب الجليل، ولو قُدّر للعباس عليه السلام أن يعيش في غير عصر الأئمة عليهم السلام، أو في غير بلدهم، لظهر للناس مقامه العلمي الرفيع، کذلك الأئمة عليهم السلام أنفسهم، فلا تظهر للناس علوم الخلف إلا بعد مضي السلف؛ حتى روى الطبرسي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: ما مشى الحسين بين يدي الحسن عليه السلام قط، و لا بدره بمنطق إذا اجتمعا تعظيما له (1) مع تزامن إمامتهما معا، وتقاربهما في السن، فكيف يستطيع العباس مع وجودهما عليهما السلام أن يملي علومه؟.
وشهادتهم عليهم السلام تكفي دلالة على سمو منزلة أبي الفضل العلمية، فالإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول فيه (بأن العباس زق العلم زقا)، كيف لا، فليس هذا بكثير على رجل يتخرج من مدرسة مدينة العلم.
أما الإمام الصادق (عليه السلام) بعد أن قال كان عمّي العبّاس بن علي (عليه السلام) نافذ البصيرة، صُلب الاِيمان، جاهد مع أخيه الحسين، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً (2،3(.
إنّ البصيرة مفهوم من المفاهيم التي أسسّتها مدرسة أبي الفضل العباس (عليه السلام)، فبإمكان أي إنسان أن يكون ذا بصيرة،
فماذا يجب عليَّ أن أفعل كي أحصل على البصيرة، وأتفوق بها؟
إنّ الوصول إلى البصيرة يستدعي، ويتطلب أموراً:
1- التفقّه في الدين، وهي معرفة الأحكام الشرعية من الحلال والحرام، وتطبيقها، وهي التي جعلها الله بمثابة الدرع الواقي، والطريق السليم لنحافظ على أنفسنا من الضرر، كذلك معرفة الله تعالى، والاعتقاد بالعقائد الحقّة عن طريق أدلة، وبراهين عقلية، ونقلية نصل بها إلى اليقين، عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام): "تفقّهوا في دين الله، فإنّ الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة، والرُتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقّه في دينه لم يرضَ الله له عملاً"(٤).
2- الإخلاص في عبادة الله جلّ وعلا، وطاعته، والتسليم لأوامره ونواهيه.
3- الطاعة، والتسليم، والتقرب لإمام زماننا صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه)، ونسعى لأن نكون، كما كان أبو الفضل العباس للإمام الحسين(عليهم السلام).
وأيضًا تبين عظيم مقامه زيارته الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام فتُوضح سمو مكانة ومنزلة عمه العباس وبيّن فيها جلالته وترافقها شهادة إمام معصوم عن العبد الصالح أبا الفضل العباس فقال سلام الله، وسلام ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصدّيقين والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح عليك يا ابن أمير المؤمنين...
وأشهد لك بالتسليم، والتصديق، والوفاء، والنصيحة لخلف النبيّ المرسل، والسبط المنتجب، والدليل العالم، والوصي المبلّغ والمظلوم المهتضم..
فجزاك الله عن رسوله، وعن أمير المؤمنين، وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء بما صبرت، واحتسبت، وأعنت فنعم عقبى الدار.
أشهد، وأُشهد الله أنّك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله، المناصحون له في جهاد أعدائه، المبالغون في نصرة أوليائه، الذابّون عن أحبّائه، فجزاك الله أفضل الجزاء وأوفى الجزاء، وأوفى جزاء أحد ممن وفي ببيعته، واستجاب لدعوته، وأطاع ولاة أمره...
أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية المجهود فبعثك الله في الشهداء، وجعل روحك مع أرواح السعداء، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً، وأفضلها غرفاً، ورفع ذكرك في علّيين وحشرك مع النبّيين، والصديقين والشهداء، والصالحين، وحسن أُولئك رفيقاً.
أشهد أنّك لم تهن ولم تنكل، وانّك مضيت على بصيرة من أمرك، مقتدياً بالصالحين، ومتبعاً للنبيّين، فجمع الله بيننا، وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين، فانّه أرحم الراحمين. (5،6)
اضافةتعليق
التعليقات