الارادة هي وظيفة العقل المميز، ويمكن توضيح وظيفتها بمقارنتها بحاسة الشم وكيف يتم. إن العقل السليم يقبل الأفكار السليمة بالفطرة كما تقبل حاسة الشم الروائح الزكية؛ ولكن هذه الفطرة يمكن إفسادها..
من أي شيء تتكون الإرادة؟
تتولد من عرض المثل الأعلى على عقل الإنسان ولكن الإنسان قد يختار مثلاً أعلى سيئاً بسبب جهله، وإن إزالة الجهل هي مهمة الأنبياء والمصلحين وذلك عن طريق البلاغ المبين.
ودور البلاغ زيادة وضوح المثل الأعلى ومعرفة كيفية تحقيقه، وبهذه الأمور تقوى الإرادة وتنمو.
بعض خصائص الإرادة:
أ- يمكن أن تصبح الإرادة ميراثاً، فيرث الفرد مثله الأعلى من مجتمعه. وما يجعل الوراثة إيجابية وجود عدد كاف ممن يعون القضية وعياً دقيقاً، لأن ما ينتقل بالوراثة دون وعي قابل للفساد، وهو ما أصاب المسلمين.
ب- للارادة مستويات أعلاها ارادة المثل الأعلى الذي يحرك المجتمع ويعطي الانسان قيمة عليا، وهو المرجع لتنظيم الحياة وتحديد علاقات الانسان، وهو التوحيد في الاسلام.
ت- قد توجد الارادة دفعة واحدة وليست القدرة كذلك، ومقياس الارادة في مستوياتها: هو الاستعداد لبذل المال والنفس، ولكن قد يصبح المال والنفس مثلاً أعلى يذل الانسان نفسه في سبيله، ويكون ذلك بالحرص على حياة.. أي حياة.
ولا قيمة لمثل أعلى لا يرفع إنسانية الانسان، فإرادة الرفاهية وزيادة الدخل و.... ارادات باطلة إذا أريدت لذاتها، فلا قيمة للمال إلا بما يحقق من إنسانية الانسان وإلا أصبح أداة إهلاك وإفساد للأمم.
ث- عند الانسان ميل فطري إلى التضحية بنفسه وماله في سبيل مثل أعلى. ولكن قد تبقى الفطرة خامدة فيكون أصحابها مستضعفين، وقد تثار في سبيل مثل أعلى باطل فيكون أصحابها مستكبرين. وقد أدان الاسلام الفئتين، ولام فاقد الارادة وعذر فاقد القدرة، وقد عذر فاقد الارادة بشروط.
متى يعذر فاقد الارادة؟
إذا فقد الانسان العقل، أو لم ير المثل الأعلى، أو لم يفهمه فهو معذور. وإن العقل ليس كافياً لايجاد المثل الأعلى، ولكنه كاف في قدرته على اختياره إذا عرض عليه.
فالهدى يتنزل من السماء وبه ارتقت البشرية إنسانياً إلى ما نراها عليه. وإن مولد الاسلام هو مولد العقل الاستدلالي، وإن ختم النبوة في الاسلام ينطوي على إدراك عميق لاستحالة بقاء الانسان إلى الأبد معتمداً على مقود يقاد منه، بعد أن بلغ مرحلة يعتمد فيها على وسائله وعقله.
منع الاسلام الاكراه في الدين لأن من فطرة العقل قبول المثل الأعلى إذا عرض عليه. وكما منع الاكراه فقد ألح على البلاغ المبين الذي هو أقوى دعائم الحق على الأرض، إن معرفة فطرة الانسان ودين الفطرة وإزالة الحواجز بينهما، تجعل الانسان الفطري يقبل دين الفطرة.
ولكن الناس يتهربون من المسؤولية ولا يعملون اليوم ما يستطيعون، فيعجزون غداً ويبقون في التيه يرددون خطأ: "لايكلف الله نفساً إلا وسعها". وكل أحد في مستواه يستطيع البلاغ، وقد وعد الله أن يعصم المبلغ من الناس، وهي أيضاً عصمة للرسالة من الانحراف والاتهام..
وإذا كانت الارادة قد ولدت من المثل الأعلى والعقل، فليس المهم أن نبحث عن أصل العقل وعلاقته بالمادة، وإنما المهم أن نجعله يؤدي وظيفته وهي الفكر والذكر. الفكر في المخلوقات لتسخيرها والذكر للخالق لشكره، فلا يتكبر على الله ولا يتعبد للكون وإلا نزل به العقاب. وإن القوانين الأخلاقية التي جاءت بها الأديان لاتختلف عن القواعد التي فرضتها الطبيعة في صرامتها وإنزالها العقاب فيمن يخالفها. فالتحرر من نظم الأخلاق كعدم التمييز بين الحلال والحرام، وعدم أداء وظيفة الأمومة، وعقوق الوالدين وسوى ذلك..
يؤدي إلى عقاب صارم كعقاب مخالفة قوانين الفيزياء والكيمياء.
الإرادة روح الأمة
إن السر في انضمام الخلايا بعضها إلى بعض لتكوين الجسد الحي، كالسر في انضمام الأفراد إلى بعضهم حينما تحدث لهم إرادة واحدة بهدف إيجاد كائن هو الأمة. إن تولد الإرادة في الفرد يجعله ينضم إلى الآخر وهذا معنى الحديث: "مثل المؤمنين في توادهم....". وإن الأفراد الذين تنتمي إرادتهم الاجتماعية إلى أمة أخرى، لا يمكن أن ينسجموا مع مجتمع لا يحملون الوفاء له. وإذا فقدت الارادة ماتت الأمة ورجعت اهتمامات أفرادها إلى أمورهم الأولية لحفظ الذات، لا لنمو المجتمع..
الارادة كقيمة وكصناعة
يقصد بالارادة كقيمة، تفاضل الارادات أو كيف يكون مثل أعلى أفضل من آخر. يحكم على قيمة المثل الأعلى بمقدار ماتشهد له حقائق الحياة والعلم بالصدق، وبمقدار ما ينسجم مع المستقبل ويؤدي دوره في الحياة، وذلك بالنظر إلى نماذج الناس الذين صنعهم هذا المثل الأعلى.
ومهما كان المثل الأعلى سامياً فهو لايكفي لتوليد الارادة، إذ لابد للزوج الآخر وهو العقل أن يكون على استعداد لقبول المثل الأعلى، وهذا معنى قوله تعالى: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
وأما القصد من الارادة كصناعة: فهو كيفية تحقيق المراد أو عملية البلاغ، وهذا راجع إلى الجهاز الذي يقوم بتوليد الارادة وحفظها. إنها مشكلة التطبيق لا مشكلة المبدأ، مشكلة المثل الأعلى الحق مع الجهل في التطبيق..
اضافةتعليق
التعليقات