نهضتُ صباح ذلك اليوم، كنتُ متعبا للغاية، فالإجتماع الذي أُقيم في الشركة يومَ أمس، أتعبني حتى إنني بِمُجرد إستيقاظي تقيأتُ ما حصدته مَعِدتي خلال اليوم كلِه وهذهِ هي عادتُها فكُلما واجهتُ ضغطًا نفسيا هاجت وتألمت. لكني تأقلمتُ مع الوضع، فمنذُ أن بلغ عُمري العاشرة أُصبت بالقرحة بعدَ رحيل والدي وها أنا أتمُ الثالثةَ والثلاثين من العُمر. رّنَ جرس الباب. تأوهتُ ثم فردتُ قامتي بِتثاقُل.
مَن الطارِق. ياتُرى؟. دبَ النشاط بجسدي ما إن رأيتُه قلت :
_ اووه سيد حسن أهلا أهلا تفضل .
_ زادكَ اللهُّ فضلًا عزيزي. دَخلنا غرفة إستقبال الضيوف وجلس إلى المنضدة قرب النافذة.
- كيفَ حالك؟ سألني ..
- أنا بخير مادمت رأيتك.
بعد السؤال والتحية الحارة بدا لي إنَ السيد حسن يُريد قولَ شيء كأنَ أمرًا حدثَ له .. في داخلهِ كلمات بل حديثٌ طويل ومجيئهُ في هذا الوقت كان مفاجأة بالنسبةِ لي ولهُ، فقد إعتاد المجيئ في الليل .
أمعنَ النظر إلى التلفاز كأنهُ جاءَ ليشاهده !
غرقت في الصمت وأمعنت النظرَ إلى التلفاز كما فعل. أطلَّ مذيع الأخبار وهو يرتدي بدلةً زرقاء بخبرٍ عاجِل!
_أقدمَ أحدَ الأطباء في مستشفى الشهيد في محافظة النجف الأشرف على قتل أحد موظفي المشفى بحجة إلاختلاف المذهبي بعدَ جدالٍ عقيم بينهما، وأكدَ المُراسل لقناتنا إنَ الموظف لم يبلغ العشرين من العمر بعد!. لحظاتُ صمتٍ مرت، قمت بإطفاء التلفاز بالرغم من إنشِداد حسن معَ الخبر وقلتُ بوجهٍ بشوش:
- ما الذي ذكّركَ بي صباحًا!؟
إبتسمَ إبتسامةً بدت مُصطنعة ثم أردفَ قائِلًا:
_إنهُ فظيع .
_مَن؟ سألتُه بإستغراب! _الواقع ، المُجتمع، الناس .
_ولِمَ ؟ حدثني ما الذي حصل .
-ألا تُلاحظ إن المُجتمع بدأ ينحدر نحو الأسوأ ، وهذا الخبر هو خيرُ دليل . بدأ صوتهُ يتعالى شيئًا فشيئًا حتى علا وتهدجَ ، وبانت على وجههُ حمرةٌ قانية .
- ألا ترى كيف يأكُل القوي مِنهم الضعيف بِلسانه ؟ كيف يُسَّقْط ، ويتنمر ، على كُلِ من هبَ ودَب بِمُجرد أن يكون إختلافٌ بسيطٌ بينهما في القوميات أو الدين أو وجهات النظر؟ كادَ يقوم من مكانهِ من شدة الغضب فقطعتُ حديثهُ قائِلًا:
_ وراء حديثك شيء ياحسن قل لي ماذا حصل؟
وكأنهُ كان يحُثني على طرح هذا السؤال فقد أجابَ بسرعةٍ دون إنقِطاع. جاءني يومَ أمس سيد مهدي . تناقشنا في مواضيع عدة، ثمَ دخلنا في موضوع التعايُش السلمي . وبعدَ حِوارٍ طويل وجِدالٌ عقيم خرجَ مِنَ البيت دون سلام تارِكًا الباب مواربا ورائه. إنه مُخجل ، مُخجل يا فؤاد أن يكون السيد مهدي بهذهِ النظرة المحدودة لقد فوجِئت من تصرُفهِ ذاك !.
_ قُل لي كيف بدأ النِقاش ، حدثني عن بعض التلميحات لأفهم .
_سأقولُ لكَ بعضَ الحديث الذي دار. قلتُ له الاصطلاح قديم قِدم الانسان. فقصة قابيل وهابيل معروفة، لكنهُ جديد في الوقت نفسه، فالحاجة لإرساء ودعم مفاهيم التعايش السلمي في المجتمع حاجة ماسة وضرورية، مع تحول العالم إلى قريةٍ صغيرة. ثم استأنفَ قائِلًا وأنا أنصت لهُ بكلِ حواسي . أما ذِكري للتعايش السلمي له فيعود إلى سهولة التنظير والدعوة إليه، قاطعتهُ قائِلًا:
_ لولا الإختلاف لما استطعنا العيش ياحسن .
قطعَ حديثي ومازال صوته على وتيرة واحدة كأنهُ يُلقي خِطابا. أنا مع الإختلاف فالإختلاف والتمايز سيكون دائمٍا موجود، بل ولابد من وجوده لكن بالإمكان تحويله إلى أداة إيجابية تنافُسية فعّالة تُغني المجتمع وهذا ما يأمر به الإسلام. لكننا نرى العكسَ يافؤاد نرى الإختلاف على توافه الأمور أهذا يُليق بِنا نحنُ الذين نتبع منهج علي الذي قال. "المؤمن أخو المؤمن إن لم يكن لك أخًا في الدين فنظيرٌ لك في الخلق"....
مازالَ يتحدث حينما دخلَ ولدي مُنذر ذو السبع سنوات ووقفَ ينتظر سكوته ، وبعد لحظات توقفَ حسن عن الحديث فعلًا . فبادرَ مُنذر قائِلًا:
_أعتذر لدخولي المفاجئ لكنَ السيد مهدي في الباب يطلبك يا أبي .
_حسنًا عزيزي أُدخل ، فأنا سأخرجُ له. حولتُ نظري إلى حسن بإستغراب ولم يكن هو أقل مني إستغرابًا!! قمنا سويةً لأستقباله. وجدناه وقد إستندَ إلى الحائط فيما رسمَ إبتسامةً عريضةً على وجهه . تمتمَ بكلمات بينه وبين نفسه لم يسمعها أيًا مِنا. وبعد السلام والتحية ، حثثتهُ للدخول ، لكنهُ أعتذرَ بِلطافة _لدي الكثير من المشاغل وددتُ التأكد من وجود سيد حسن.
قال حسن بتلعثم : _ هل من خدمة ياسيد ؟ _لا ياعزيزي . قالها بِلُطف. تنحنح حسن ثمَ قال :
_إذًا لِمَ أتعبتَ نفسك بالمجيئ ، كان من الممكن الإتصال بِفؤاد للتأكد من وجودي؟ أغمضَ سيد مهدي عينيه ومازالت الإبتسامة على مُحياه تزهو.
_أعلم مايدور بذهنك تظن إن أمر الحادثة والمجيئ مخطط له . لا.. أبداً كل ماحصل لم يكن مُخططا لهُ إنما وِلدت الفكرة حينما عَرَجتَ على موضوع وجهات النظر أردتُ أن أختبر صبرك فعارضتُك في النقاش. كنتُ للِتو عندَ باب بيتك وقد خرجَ إبنك أحمد وقال إن أبي خارج المنزل. كنتُ أعلم إنك ستكون هنا . ثمَ وجه نظرهُ إلي مؤكدًا _فلا يخفى على الكثير رابط العلاقة الوثيق بينكما، عاود النظر إلى حسن ثمَ أردفَ قائِلًا :
_وهنا ياعزيزي تكمن العبرة إن لم تُطبق التعايش السلمي وقبول إختلاف النظريات على نفسك لا تُطبقها على أفراد المجتمع. فلا جدوى من ذلك إذ لا تأثير يحصل إن لم يكن الكلام خارجًا من القلب. وتذكروا السيد يٰس رحمهُ الله عندما قال لنا. ضعوا هذهِ المقولة نَصّبَ أعينكُم . ما يخرج من القلب يدخل الى القلب وما يخرج من اللسان لا يتعدى الأُذنان.. فعملية التعايش تبدأ من نظرة الإنسان إلى نفسه وتقييمها، ومدى نجاحه في إقرار حالة التعايش الداخلي مع ذاته، وإن لم يكن فسيكون ذا شخصية بعيدة عن التوازن والإعتدال ، فالتعايش يبدأ من دائرة الذات ويمتد ليؤثر ويتأثر بجميع دوائر المجتمع. ابتلعَ حسن ريقه ثم قال: _ألم يحثنا أمير المؤمنين على التعايش السلمي ياسيد أولم يكن هذا من واجبنا نحن؟؟
_أجل أجل ياحسن لكنَ الأمير (عليه السلام) ، قرأ المجتمع قراءة واقعية تتسم بقدرته الفائقة وعمله الدؤوب على خلق حالة الأمن الإجتماعي، وعلى إيجاد التعايش السلمي قبل كل شيء إيماناً منه (عليه السلام) بأن الإنسان يتأثر بالعديد من العوامل المحيطة به خلال حياته، والتي أهمها مجتمعه الذي ينتمي إليه والناس الذين يتعايش معهم . وقد طبق الأمير كل ما كان يحث عليه الناس على نفسه ، ثم خرج إليهم. وقد قالَ في إحدى وصاياه " وأشعِر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم." فشريعة الإسلام مبنية على المحبة واحترام الآخر ومعتقداته وحتى وجهات النظر.. تنهدَ سيد مهدي وعاود الإبتسامة قائِلًا: كانَ درساً عظيماً هذا اليوم دونَ تخطيط .
أنتما الاثنان معفيان عن حضور الدرس المُعتاد أخذه هذا اليوم ..وأُبارك لكما هذا اليوم العظيم الذي شملنا تحت راية الأمير ..
اضافةتعليق
التعليقات