تترسب الصدف في مصفى الوقت التائه فتغير حياتنا على نحو لم نكن نتوقعه وتحيي في النفس أشياء كنا نعتقد أنها باتت في مثواها الأخير، حتى تداهمنا صدفة تشبه الحلم قريبة من عالم الحرمان تجعل المشاعر مختلطة بين لهفة وحسرة، لتروي ذكرى أيام الوفاق وتعانق ملامح الفراق وكأنها عصية على النسيان، ويكون لباب الشوق منها نسائم عقيمة تجري كسيل أيامه حبلى بالأحداث يسد جفوناً خالجها الاشتياق، والروح غصن أسير يتلوى على مدارجها ويسكب الشعور الملتهب أفيونه لينام ملئ جفونه.
ثمة حدث خلف الستار يقوده إلى مبتغاه، ومن المؤكد أن اندفاع الحزن لدينا عند اجترار الماضي ينبع بشوق عقيم لكن علماء النفس والخبراء في هذا المجال يعتقدون أن المشاعر عموما لها تأثير إيجابي قوي على صحتك العقلية، وفي بعض الأحيان يمكن أن تشعرك الأفكار الحنينية بالرهبة أكثر من الشعور بالراحة، فلا سيطرة على الشوق عندما يصل إلى الاشتعال.
فمن منا لا يشتاق إلى أمه الموجودة بعالم آخر وللأبناء، ومن منا لا يشتاق إلى وطن فيه الذكريات والبسمة، فيه الروح المتعلقة والقلب المرتبط به، فيشعرنا أنه لا وجود للاوكسجين والقلب تنقبض شرايينه بقوة الشوق الموجود.
وأجمل أنواع الشوق تلك هي حينما نشتاق للخالق شوقا مضاعفا لا شريك فيه لأحد تنقبض الأنفاس وتزداد شهقات الروح فتغدو كأنك حطاما على سجادة في آخر الليل يمتد صوتها إلى ركن عتيق يحيي ماكان الانسان غافلا عنه فيزيد من روحانيته وعلو شأنه بنسمة عابرة تثلج القلب وتطمئن الروح أن الإله سمعك وأجاب، فقد روي في مصباح الشريعة عن الامام الصادق(عليه السلام) في وصف المشتاق: «المشتاق لا يشتهي طعاماً، ولا يلتذ شراباً، ولا يستطيب رقـاداً، ولا يأنس حمياً، ولا يأوي داراً، ولا يسكن عمراناً، ولا يلبس ليناً، ولا يقر قراراً، ويعبد الله ليلاً ونهاراً، راجياً بأن يصل إلى مـا يـشتاق إليـه ويناجيـه بلسان شوقه معبراً عنها في سريرته، ومثل المشتاق مثل الغريق ليس له همـة إلا خلاصه، وقد نسي كل شيء دونه»، فعلى كل مشتاق أن يطفئ نار الشوق بالعودة إلى سفوح النفس والاتصال بخالقه الذي يعيد كل شيء إلى مجراه فهو الوحيد الذي يعلم مكامن النفس ويثلج الصدور بهبة الاطمئنان ويقلل من شدة نار الشوق.
الشعاع الثاني: شوق اللقاء
قد ورد في خطبة المتقين للامام علي (عليه السلام) عن أولئك الذين يشتاقون إلى خالقهم فتكون نفوسهم من حدة الاشتياق زاهقة ترتجي اللقاء: «ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب».
وهذا إشارة إلى غاية نفرتهم عن الدنيا، وفرط رغبتهم إلى الآخرة، لما عرفوا من عظمة وعده ووعيده، مشتاقون إلى الانتقال إليها شدة الاشتياق، لا مانع لهـم مـن الانتقال إلا الآجال المكتوبة وعدم بلوغها غايتها، فالمتقون: «صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعـلى» إذ إن المحب إلى لقاء المحبوب مشتاق، ولذا عـرض الله تعالى على اليهود لما زعموا أنهم شعب الله المختار، وأنهم أحباء الله تعالى، فقال: « قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين».
وربما صفة الاشتياق للخالق دون المخلوق لا تكون في كثير منا، وللوصول إليها لابد من رباط وصل لنا فالشوق باب عظيم من أبواب الجنة يتصف به المتقي في حياته، فحين يُرخي الليل سدوله، ويخلو كل حبيب بحبيبه، وتسكن الأصوات، ينسل المحب من فراشه، واقفا في محراب الحب، والمحراب جنة الأواب، وملاذ الأحباب، ونافذة الاقتراب، ويسجد فيدلف من بوابة سجوده إلى أُنس روحه، ويسبح فيجعل من خفقات قلبه خيوطا ينسج بها ثوب الحب والشوق، تحلق الروح في آفاق السمو، وتطرق أبواب الملأ الأعلى، هذا الشوق الكبير إلى الحبيب لا يمكن وصفه، وترانيمه لا تروق إلا للعشاق.
تسري في قلب المحب، فيستسهل كل صعب، ويسترخص كل غال، يستعذب الموت شوقا إلى ربه، ولقد كان من دعاء سيد المشتاقين (صلى الله عليه وآله) "وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة"، وللوصول لشوق الخالق علينا اتباع بعض الخطوات التي تطهر النفس من كل ماهو دنيوي إلى عالم ملكوتي.
أولاً: الدعاء بأن يرزقنا الله تعالى شوق لقائه، فقد ورد في زيارة أمين الله: «اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك، مشتاقة إلى فرحة لقائك» وكذلك ورد عن الإمام السجاد (عليه السلام): في مناجاة المحبين: «الهـي فاجعلنـا مـن اصطفيته لقربـك، وشـوقته إلى لقائك»، وفي مناجاة العارفين: «إلهي فاجعلنا مـن الـذين ترسخت أشجارالشوق إليك في حدائق صدورهم».
وثانياً: استذكار نعیم الجنة، فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «شوقوا أنفسكم إلى نعيم الجنة تحبوا الموت وتمقتوا الحياة».
اضافةتعليق
التعليقات