(البراغما) لفظ يوناني معناه (العمل) وإذا ما قلنا عن منهج أو شخص أو حركة... الخ، أنها براغماتية نعني بذلك أنها ترص أسس الواقعية على الفكرة أو الخيال أو الأطروحة، لتخرج بمصداق ملموس ومحسوس.
راجت الفكرة وانتشرت بعدما تناولها (وليم جيمس 1842-1910) في محاضرة شرحها وبين مفرداتها وما لها من تأثيرات إيجابية لتحول العالم النظري إلى عالم حقيقي تُظهر الفرضيات والتجارب فيها النتائج بوضوح، لتنعكس على المجتمع بمردود مفيد.
في ظل البراغماتية عليك أن تسأل نفسك قبل أن تقوم بأي عمل من الأعمال ماذا أستفيد أنا أو غيري من هذا العمل؟! و ما له من تأثير؛ فالمسألة ليست إنعقاد مؤتمرات أو ندوات, بل ما يترتب عليها على أرض الواقع، ولربما لا نكون مبالغين إذا قلنا أن أكثر الصيحات الثقافية
والاجتماعية لا تتعدى أرض الخيال الرحب، وما أن تمد رجلاً لينبوع الحقيقة البارد حتى تنكمش على ذاتها وترجع القهقرى دون عودة, ليصدق عليها قول عبد القادر المازني (نسمع جعجعة ولا نرى طحينا).
تبادل الحضارات
سارعت الأمم المتحضرة باتخاذ هذا النهج في منظومتها الإجتماعية بصورة عامة، فهي لا تخطو خطوة واحدة إلا إذا درست بدقة كل الطرق والإستراتيجيات الموصلة إلى الأهداف.
لاقت هذه النظرية رواجاً كبيراً، ونفذت بدقة في العالم الغربي حيث انعكس ذلك في مختلف تطلعاته وتوجهاته التي كانت منها التعرف على الحضارات ودراسة تاريخها.
كانت الحضارة العربية الإسلامية من هذه الحضارات المدروسة؛ حيث لم يترك الغربيون صغيرة ولا كبيرة من المخزون العلمي الهائل لدى علمائنا أمثال ابن سينا وابن الهيثم اللذين ترجمت آثارهما إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية وغيرها العشرات من لغات العالم الحية، إلا وتناولوها بحثاً وتحقيقاً ودراسة، حتى لا يكاد يختلف اثنان أنهم كانوا يدرسون كتب المسلمين ويفدون إلى العواصم العلمية في بلادنا للنيل من مناهلها العذبة لقرون عديدة.
وعلى نفس الغرار سار العرب المسلمون قديماً حيث لم تصل الحضارة العربية إلى مرتفعات القمم إلا بعد أن فتحت آفاقها لتبادل المعلومات والتطلع على الحضارات اللصيقة بها أمثال الحضارة اليونانية والهندية والفارسية، ووقف علماؤها الفطاحل كابن رشد وابن الطفيل وابن مسكوية وابو بكر الرازي والفارابي والبيروني وغيرهم الكثير، يشيدون أعظم الإشادة بغيرهم من الفلاسفة أمثال أفلاطون وسقراط، يطرحون ويناقشون الأفكار ليميزوا الغث من السمين، ثم يردوا الخلافات بأدلة منطقية مدروسة ومتوازنة بعيداً عن كل الشوائب العرقية والمذهبية والخلافات التعصبية حيث نراهم يقدرون المادة العلمية بما هي، وما تطرحها من نتائج إيجابية؛ فقدموا الإبداعات الحضارية التي ارتقت بالإنسانية نحو الأمام.
الإسلام مذهب براغماتي ولكن!!
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون(2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3)) سورة الصف.
البراغماتية مذهب معقول، دعت إليه الشرائع السماوية عامة والإسلامية خاصة بصريح العبارات؛ حيث أورد العلامة الشيخ زين الدين العاملي (الشهيد الثاني) في كتابه (منية المريد) مبيناً أهمية إقتران العلم بالعمل (إعلم أن العلم بمنزلة الشجرة والعمل بمنزلة الثمرة، والغرض من الشجرة المثمرة ليس إلا ثمرتها، أما شجرتها بدون الإستعمال فلا يتعلق بها غرض أصلاً).
وفي الحديث النبوي الشريف (كل علم وبال على صاحبه يوم القيامة إلا من عمل به) بحارالأنوار/ج2/ص38/ب9.
و(أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينتفع بعلمه) تنبيه الخواطرو نزهة النواظر ج2/ص213.
في المقابل رفض الإسلام بقوة الحالة النفعية الذرائعية التي يراها البعض من أصحاب المذهب البراغماتي، تلك الطرق والأساليب التي كانت من نتائجها الإنتهازية والإبتعاد عن الخلق والقيم
وسياسات الظلم الأهوج واللعب بمقدرات الشعوب وفرض الهيمنة وسلطة المال، بإهدار المنتجات من أجل رفع الأسعار والمتاجرة بالبشر، وغير ذلك من الطرق الوصولية التي كانت بعض نتائج البراغماتية؛ لما رأت أن الغاية تبرر الوسيلة.
(وإن عدتم عدنا ...) الإسراء/8. هناك مقولة حكيمة أشهر من نار على علم تقول: (التاريخ يعيد نفسه)، يستطيع المسلمون الرجوع إلى منهجهم الراقي في تقبل الآخرين، ومحاولة التعرف عليهم بموضوعية أكثر من خلال تعلم اللغات والغوص في الثقافات والفلسفات ومعاشرة أصحاب الرأي الآخرب كل إيجابية وعفوية ؛ لتتفتح أمامهم آفاق العلم النافع الذي فقد أهميته لما قل الثمن للمادة العلمية الخالصة، واكتسبت الشوائب قيما أكثر، كقطعة ذهبية مصوغة، دفعت الغادة الحسناء أجرة على صياغتها أغلى من وزن نفس القطعة الثمينة الخالصة.
اضافةتعليق
التعليقات