أمر الله -سبحانه وتعالى- العباد بتهذيب أنفسهم وتزكيتها وتطهيرها من المعاصي والذنوب والعيوب كافّةً، قال تعالى في كتابه العزيز: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)،[١] فمن ترك نفسه دون تزكية أو تهذيب فهو في خسارةٍ دائمة، ومن زكّاها وطهّرها ممّا يَعلق بها من الذّنوب هو الذي يُفلح وينجو من عذاب الله وينال رضوانه، فلا ينبغي للمسلم أن يُفسِح لنفسه المجال في فعل ما يحلو لها من اتِّباع الهوى، والخوض في حرمات الله وارتكاب المعاصي، بل يجب أن يجعل لنفسه محطّاتٍ دوريّةٍ منها ما هو سنويّ، ومنها ما هو شهريّ، ومنها ما يكون أسبوعيّاً، فيُذكِّر نفسه بالجنة والنار، ويُراجع أعماله، ويُحاسب نفسه على تقصيرها إذا رأى أنه مُقصّر، ويُحفِّزها إذا وجد نفسه مُقبلاً على الله. قال رسول الله (ص) في ذلك: (الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ المَوتِ، والعاجِزُ مَن أتبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على اللهِ).
كل نفس انسانية فيها عنصري الخير والشر كما ورد في الآية الكريمة المباركة أعلاه وهي تشير إلى الهداية الفطرية على معرفة ما يفيد النفس وما يضرها.
وقد ورد في كلام المعصومين ما يشير إلى تنزيه هذه النفس وتربيتها وتبيان الطريقة التي يجب أن تكون عليها فقد ورد عن الامام علي (عليه السلام): إن النفس لجوهرة ثمينة، من صانها رفعها، ومن ابتذلها وضعها (غرر الحكم). وعنه (عليه السلام): ليس على وجه الأرض أكرم على الله سبحانه من النفس المطيعة لأمره (غرر الحكم). وقد جاء في (تفسير علي بن ابراهيم) عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله * (ونفس وما سواها) *: خلقها وصورها، وقوله: * (فألهمها فجورها وتقواها) * أي عرفها وألهمها، ثم خيرها فاختارت. وفي (مجمع البيان) ورد عن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) في قوله: * (فألهمها فجورها وتقواها) *: بين لها ما تأتي وما تترك.
كيف يزكي الانسان نفسه؟
وهناك سؤال مهمّ في هذا الخصوص هو: كيف يزكّي الإنسان نفسه، وما هو برنامج هذه التزكية؟
فيأتي الجواب من السيد محمد تقي المدرسي والذي ورد في كتابه (الأخلاق عنوان الإيمان ومنطلق التقدم):
أوّلاً: وقبل كل شيء لابدّ للإنسان من أن ينظر الى عمليّة تزكية النفس كأخطر مهمّة كلّف بها، ثم يسعى من أجل ذلك. أمّا إذا جعل تزكية النفس ضمن سائر الأهداف الحياتية، أو جعل هذه العمليّة مرادفة للوصول إلى الثروة والسلطة والأهداف الدنيوية الأخرى، فإنّه سوف لن يستطيع الوصول إلى تزكية النفس، لأنه وضع أمامه هدفين في مستوىً واحد من الانتماء، أحدهما أصعب وأخطر من الآخر. وبطبيعة الحال فإنّ الإنسان في هذه الحالة سوف يحقّق الهدف الأسهل، ويترك الهدف الأصعب.
وتزكية النفس بحاجة إلى روح اقتحامية. وهكذا فإن عمليّة الوصول إلى تزكية النفس ليست بالأمر السهل، كما يقول ربنا عز وجل: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} (البلد/11)، بل تحتاج الى الاقتحام. ومن المعلوم أنّ الاقتحام بحاجة الى الشجاعة والبطولة وتركيز الإرادة وشحذ العزيمة، لأنّ الإنسان في هذه الحالة يريد أن يتحدّى شهواته، ويزكّي نفسه، ويطوّع شيطانه، ويروّض هذه النفس الأمّارة بالسوء)).
قبل الخوض في تفاصيل وسائل التزكية لا بدَّ من العلم أن تزكية النفوس لا سبيل إليها إلا عن طريق الشرع المطهر باتباع ما جاءت به الرسل عن رب العالمين جل وعلا.
وقد أشارت آية الجمعة السابقة إلى هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [الجمعة: 2].
وتزكية النفوس تتحقق بأمور كثيرة، ومن أهمها ما يلي:
1 ـ التوحيد: وقد سماه الله تعالى زكاة في قوله: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِين الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون﴾ [فُصِّلَت: 6 ـ 7]، وهذا التفسير مأثور عن البحر ابن عباس حيث قال في قوله تعالى: ﴿لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾: لا يشهدون أن لا إله إلا الله.
كما سمى الله تعالى الشرك رجسا ووسمه بالنجاسة، قال تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ﴾ [الحج: 30]، وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: 28].
فدل مفهوم الآيتين على أن الطهارة والتزكية في التوحيد الخالص لله جل وعلا.
ولذلك قال موسى لفرعون وهو يدعوه إلى التوحيد: ﴿هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾[النازعات: 18 ـ 19].
2 الصلاة: وهي من أعظم ما تزكو به النفوس ولذلك قرن الله تعالى بينها وبين التزكية في قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: 14 ـ 15].
وقد شبه النبي صلى الله عليه واله وسلم تطهير الصلاة للنفوس بتطهير الماء للأبدان يول الحديث الشريف: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْس مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: «فَذَلِكَ مَثل الصَّلَوَات الخَمْس يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الخَطَايَا».
وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: «مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْس كَمَثَلِ نَهرٍ جَارٍ غَمْرٍ(8)عَلَى بَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْس مَرَّاتٍ».
3 ـ الصدقة: قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103].
4 ـ ترك المعاصي والمحرمات: قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ أي: زكى نفسه بفعل الطاعات، ثم قال: ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ أي: خسر من دساها بالفجور والمعاصي.
قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم﴾ [النور:21]، ذكر ذلك سبحانه عقيب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية، فدل على أن التزكي هو باجتناب ذلك» (12).
5 ـ محاسبة النفس.
6 ـ الدعاء: على العبد أن يلجأ إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع ليصلح له نفسه ويزكيها ولذلك كان من دعاء نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا».
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه المتجبين وسلم تسليما كثيرا.
إنَّ أهم ما ينبغي للناس أن يتعاهدوه تزكية نفوسهم، ولا سيما في هذه الأزمان المتأخرة التي استحكمت فيها الشهوات، وارتطمت فيها أمواج الفتن والشبهات، والتي لم يسلم منها إلا من عصمه الله جل وعلا.
اضافةتعليق
التعليقات