عدت مسرعا إلى داري، الذي ولدت به في احد ضواحي بغداد، عدت لأرتمي، في حضن بلادي، التي أحرقتها الحروب، وشوهت خدها الشظايا، عدت لأجد بغداد تبكي على أولادها، وجسورها، تنوء بحزن ثقيل، ونخلها أشعث السعف، قد ارتوى بدماء أبنائه، لأرى سوى حطام بيتنا، كنت اعرف ان أسرتي غادرت البيت منذ سنوات، بعدما اخرجوا من بيتهم، ليس لأنهم إرهابيون، بل لأنهم شيعة، ليشدوا رحالهم إلى كربلاء، لم نكن نعرف فيما مضى، من هم السنة والشيعة، قد كنا صغارا نلعب معا في نفس الزقاق، لم نعرف للطائفية معنى أو حتى تسمية، لقد كنت قاصدا أن اذهب إلى ذلك المكان، لأرى صور كانت قد رسخت في ذهني منذ الطفولة، لم أكن أتصور، ان ذلك المهد، الذي كانت تهزه أمي، سيبقى فارغا من ذكرى صبي أكلته الغربة.
أمير كمال احد المغتربين في ألمانيا استطرق بكلامه قائلا: أقسى ما قاسيته في غربتي، هي لحظات الإفطار الجميلة حينما تلوذ العائلة ببعضها حول مائدة الإفطار، وفرحة العيد حينما تعلنها الجهات الشرعية في آخر ليلة من رمضان.
كان العيد موحشا على أرصفة برلين، قضيت سنوات أنا وإخواني العرب نعزي أنفسنا بالعودة يوما إلى حضن الوطن، فنحتضن بعضنا بصباح العيد، لنشعر إننا بين ذوينا.
وختم حديثه: ستكون هذه سنتي الأولى التي اقضي فيها فرحة عيد الفطر المبارك بين أهلي منذ اغتراب دام سبع سنوات، اسأل الله أن يعيد كل مغترب إلى دياره، وان يعود السلام إلى العراق، والى كل البلدان العربية.
فيما قالت بسمة كريم: لقد سافرت منذ سنتين، لأكمل دراستي، حيث سكنت في بيت أخي وزوجته وأطفاله، إلا إني قضيت العامين بأعجوبة، رغم إن البلد عربي وعاداته تقريبا مغايرة لعاداتنا، حتى في طقوس العيد، إلا إن الحنين يجرفني، بين الحين والأخر، إلى بلدي وأسرتي وأصدقائي.
وتابعت مندهشة من نفسها: اين ذهبت لهفتي حينما قررت السفر وإنهاء دراستي في بيروت!
وأضافت: حينما قرر أخي بأننا سنقضي عيد الفطر في العراق هذا العام أحسست اني طفل صغير سيعيدونه إلى أبويه، وحينما هبطت الطائرة، وترجلت منها سرت بداخلي فرحة لا توصف، سعيدة أنا لأني سأقضي العيد هنا في بلدي، اسأل الله أن تمر سنوات الدراسة بسرعة البرق لأعود إلى وطني الحبيب.
ومن جهتها تسرد أم مروة وهي إحدى المغتربات في السويد عن طقوس عيد الفطر التي تحاول جاهدةً استذكارها هناك حيث قالت:
ما ان اقبل عيد الفطر المبارك، حتى تناهت الى مفكرتي الذكريات، بين الماضي والحاضر لتحضيرات العيد بقدومه، الكثير من العادات تغيرت هنا.
لقد قضيت خمسة سنوات في السويد، كانت البداية صعبة ومتعبة، الا اننا اعتدنا الامر في السنوات الاخيرة، لقد صمنا شهر رمضان هذا العام بنهار طوله 20 ساعة، الا اني كنت سعيدة فصيام الشهر الفضيل يذكرني بوطني واهلي وبعادات شعبي وطقوس رمضان.
واضافت قائلة: ان اكثر ما نفتقده في الغربة، هو رفع الاذان والتمجيدات التي تسبقه، وحتى تمجيدات السحور المتعارف عليها، مثل جملة (عجل بشرب الماء يرحمكم الله او كلمة امساك)، الا اننا نسعى جاهدين، باستذكار البعض منها، مثل تبادل الزيارات الرمضانية بدعوة بعضنا، وتوزيع الثواب على الجيران.
واشارت بحديثها: بأنها تسعى بالتوضيح لاطفالها ما معنى رمضان ووجوب الصيام.
وتابعت ام مروة بانها تعرضت للكثير من الاسئلة من السويدين كلماذا تصومون؟ حتى يبدى عليهم التعجب كيف نستطيع اكمال النهار بدون حتى شرب الماء، ولكن في الوقت الحالي، تفهموا تقاليدنا وديننا، وبعض المحلات السويدية اصبحت تحضر البضائع العربية، الخاصة في شهر رمضان، مثل التمور وتعليق بعض الصور لهلال شهر رمضان.
وأما في طقوس العيد، نتبارك بقدومه فيما بيننا، ونصلي صلا العيد، في الحسينيات، او الجوامع، ونتصل على أهلنا في العراق، ولكن يبقى الحنين يعصف بنا بين حين واخر، لرؤية ذوينا عن كثب ومعانقتهم، وسيبقى العراق الوطن الأم وانا انتمي له، ختمت حديثها متمنية أن يعم الأمان في بلاد الرافدين وان يعيش الشعب العراقي بخير وسلامة بعيدا عن دوامة الإرهاب.
الارث الروحي
هل تستطيع الغربة ان تمحو تفاصيل الذكريات وملامح الاشياء التي يتركها المهاجر خلفه؟
ام ان ترسخها وتجذرها في روحه وذاكرته لكثرة فتح ملفاتها يوميا او كلما سنحت فرص الاشتياق تجعله يبحر بذكرياته عبر سنوات اغترابه الى موطنه مهما لاقى من ارتياح في بلده الجديد، وخصوصا نكهة العيد، ورؤية اسرته وهم يتهافتون على بعضهم ليباركوا ابويهم بحلول العيد، او حتى لزيارة قبور امواتهم من ارحامهم، كل هذه عادات رسخت في وجدان العراقيين، مؤكد ان تفتح الذكريات افاقها بين حين واخر ليبحر به الاشتياق بين الشوارع والمدن والمقاهي والى الصغار وهم يحلقون مع طائراتهم الورقية، ورائحة المعجنات (الكليجة) التي تتفنن الام بصناعتها والتي نادرا ما تخلو من البيت العراقي، والى ترنيمة الامهات(دللول) والى وجوه الناس الطيبين، كل ذلك الارث الروحي والزماني يبقى نابضا في روح وقلب مخيلة كل مغترب محب لوطنه ولذويه واصدقائه.
وللحديث عن الغربة والحنين الى الوطن والتمسك بالعادات والقيم الاسلامية حدثنا الشيخ نزار التميمي قائلا: ان الاصل الفطري والوجداني لدى كل إنسان هو حبه وميله للارض التي ولد فيها والوطن الذي عاش ونما وترعرع فيه، وهذه المشاعر المقدسة، لايمكن لانسان ان يتنكر لها او يكذبها، وبالتالي فالحنين والظمأ للاوطان والبلدان، التي ينتمي اليها الفرد، حقيقة ثابتة في الوجدان، وقد اكدت عليها بعض الاخبار والروايات، كما ورد حب الوطن من الايمان، لطبيعة العلاقة النفسية والفسلوجية بالوطن، كون ان التكون والبناء، الذي أنشئ منه الانسان، انما هو من نبات وخيرات تلك الارض، وبالتالي فتربته تسري في دمائه وأنفاسه.
وأضاف التميمي: ويمكن ان تحصل ظروف استثنائية وطارئة، لمغادرة هذا البد، اوذاك الوطن، كما حصل ويحصل عبر كل المسيرة الانسانية واحداثها، فها هو النبي محمد (ص) يغادر مكة مرغما، خرج منها وعينه عليها وقلبه معها، وهكذا هذه هي سنن الكون والحياة، وبالتالي فعلى الانسان، والحال هذه ان يوطن نفسه قدر المستطاع، ويخلق لنفسه حالة من التأقلم والانسجام مع الحال الجديد والوطن الأخر.
وتابع قائلا: أنا شخصيا كما الكثير من العراقيين يتحسسون معنى الألم واللوعة عندما تفارق بلد العراق لشهر او أكثر تجد نفسك تجزع وتحن وتأن وتريد الرجوع بأسرع وقت للعراق وهذا الحالة اعتقد يعيشها كل انسان طبيعي وسوي.
الرسالة اليوم لكل الإخوة الذين اضطرتهم الظروف للهجرة، ومغادرة البلد، أن يستعينوا بالصبر ويتحملوا هذه الغربة، بشكل واعي ومدروس بمعنى أن يحافظوا قدر الإمكان على أعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم، التي أثبتت أنها أجمل وأحسن وأروع العادات والتقاليد، واقصد تقاليد وعادات العراقيين التي تكرس للإخوة، والرحمة، والنخوة، والانسانية، والغيرة، وهذا ما لم نجده عند أي شعب أخر، مع احترامنا للآخرين، ومن المؤكد هناك قلوب تتفطر شوقا وحبا وحنينا للعراق خاصة من قبل الإخوة الذين طال غيابهم لعدة سنوات، لا شك انهم متعطشون ومشتاقون كثيرا للانصهار مرة أخرى بكل مايمت للعراق بصلة، من تقاليد وقيم وعادات وطقوس، وأنا على يقين أنهم كارهون لكل الحالات الغريبة عن طباعهم وتربيتهم وعمقهم العربي والإسلامي، والأمل أن يحفظوا، أسرهم وأطفالهم في بلاد الغربة، ويغذوهم الغذاء، الذي تغذيناه جميعا في هذه الارض المباركة، ارض العراق الطيبة.
اضافةتعليق
التعليقات