قال تعالى: {الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِين}(١).
حد السُبل التي نعرف بها وجه من وجوه عظمة هذه الآية من ناحية تأثيرها على مصير الإنسان الموجهة له هي أن ندقق في الآية التي تسبقها والتي تليها، إذ أتى فيما سبقها هذا الاستفهام، قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}(٢)، وأتى فيما بعدها قوله تعالى: {يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}(٣)، فسياق الآيات تحذيرية -إن صح التعبير- للإنسان في تحديد مصيره الأبدي وليس تحذير إرشادي أو فيه المسامحة إن لم يأخذ به، وهذا يكشف عن خطورة هذا النوع من العلاقات الإنسانية.
فالآية التي قبلها تتحدث عن صعوبة تغيير المصير إن أتى أجل الإنسان وهو يخالل عدوه، ولكن إدراك هذه الحقيقة واختيار الخليل على ميزان التقوى - الحب في الله تعالى - موجب لحسن الختام وهو الذي جاء في الآية اللاحقة إذ لا خوف عليه في ذلك اليوم ولا هو من الذين سيحزنون.
وقد جاء في الأثر عن الإمام الرضا (عليه السلام): "من استفاد أخا في الله عز وجل استفاد بيتا في الجنة"(٤)، فربط الأخوة المستفادة لله تعالى مع العاقبة في الآخرة في حديث الإمام توصلنا لنفس الحقيقة وهي حجم مدخليتها في تحديد مصير الإنسان الأخروي.
كما وإن من السُبل الأخرى في فهم خطورة هذا التحذير الإلهي هو عَبر التأمل في نفس الآية، إذ يمكن أن نفهم منها عدة أمور :
أولاً: مفردة [إخلاء] تتحدث عن مرتبة أعلى من الصحبة والرفقة أو الصداقة بل -كما يبدو- الخلة تتحقق بعد كل هذه المعاني أي من إذا خلوت به لم تستوحش غياب غيره لقربه منك ولقربك منه، وهذه المرتبة من العلاقات هي التي تبدأ ولا تنتهي، ولا تتحقق ثمارها الطيبة إلا إن كانت بين أهل التقوى. نعم، هناك خلة بين أهل الفجور ولكنها ظاهرية، مؤقتة، متوقفة على منفعة دنيوية بينما الإخلاء في الله تعالى خلتهم في الظاهر والباطن، دائمة، وفي الله ولله تعالى.
ثانيًا: وصف الآية لخلة أهل الدنيا بالعداوة وكأنها تقول إن جزاء تلك العلاقة -الخلة- التي ليست بين أهل التقوى من جنس عمل أصحابها، فكما إن النفس الأمارة وصفت بأنها "أعدى أعدائنا" لأنها تأمرنا وتوسوس لنا وتلهمنا المعاصي والذنوب وتجاوز حدود المحبوب.
هكذا الإخلاء في الدنيا -من غير أهل التقوى - عملهم مع اخلائهم هو هذا، تشجيعهم على المعاصي، تحبيبهم بالذنوب، والأخذ بأيديهم نحو تجاوز حدود الرب، فهذه هي عين العداوة التي كانوا يرونها محبة ومودة! وفي ذلك العالم سينكشف الحجاب عن العيون وتصبح - كما عبرت الآية {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(٥) ، فيبصر حقيقة ما كان بينهما، وما تبع ذلك من أثر وجزاء.
لذا أهم صفة بالخليل إنه يذكرك بطاعة الله تعالى، يحببك في ذكره، ياخذ بيدك إلى حيث تزداد هدى منه لتكون معه هناك، وتنال رفقته في أخراك، فالموفق من رزق خليل، والمحظوظ من كان هذا الخليل من أهل التقوى، فلا يجامل ولا يداهن بل يخاف عليك كما يخاف على نفسه، وينبهك كما يحب أن ينبه ويوعظ وينصح من قبل غيره.
فنحن في زمن يسهل فيه جمع الأصحاب والأصدقاء والداعمين والمشجعين والمادحين، لكن من الصعب أن تجد أحدهم من أهل التقوى، فيراك تخطئ فلا يصمت أو تتراجع فلا يهملك، أو تغفل فلا يوقظك كما الجميع.
وختامًا هناك سرٌ جميل في هذه الاية هو أنها تعطيك أمل أنك إن كنت صادقًا في مسيرك إلى الله تعالى فمن السهل أن تعرف وتشخص هكذا خليل، لأنه الأندر في كل من حولك، أوليس هذا نبي الله تعالى موسى (عليه السلام) كان ممن طلب فأجيب؟ فأطلب واصدق بالنية وعاهد الله تعالى على أن تكن خير حافظ لعطايا الله تعالى فلا بد وأن يستجيب الكريم.
اضافةتعليق
التعليقات