في إحدى الحكايات الفلسفية القديمة، يقف حمار بوريدان بين كومة قش ودلو ماء.
جوعه يساوي عطشه، ورغبته في الأكل لا تقل عن رغبته في الشرب. يتأمل القش، ثم ينظر إلى الماء، ثم يعود إلى القش وفي النهاية، يموت جوعاً وعطشاً. لم يمت لأن القش كان بعيداً أو الماء ملوثاً، بل لأنه تردد.
إنها مفارقة موجعة، تختصر مأساة الإنسان المتردد في أبسط صورها. كم منّا ماتت أحلامه لا لأن الطريق كان مستحيلاً، بل لأنه ظل واقفاً على مفترقٍ بين خيارين، ينتظر لحظة يقينٍ لن تأتي أبداً.
التردد ليس تأملاً ناضجاً، بل شللٌ إرادي يجمّد الحركة ويعطل الإرادة. إنه المرحلة الرمادية بين التفكير والفعل، حيث تضيع الطاقات، وتذبل الإمكانيات، ويتحول العقل من أداة قرار إلى سجنٍ من الفروض والاحتمالات.
فالمتردد لا يعيش الحاضر، بل يستهلكه في حسابات الغد التي لا تأتي. وراء التردد يقبع الخوف، متخفياً تحت أقنعةٍ براقة: “أنا فقط أريد أن أكون حكيماً”، “ما زلت أدرس الأمر”، “ليس الآن الوقت المناسب”…
هذا ما يتحدث فيه بينه وبين نفسه ومؤمنٌ به لكن الحقيقة أن الزمن لا ينتظر أحداً، وأن الحكمة الحقيقية لا تُكتسب في الانتظار بل في الخطوة الأولى، مهما كانت ضبابية.
لقد أصبحت الحياة الحديثة أسرع من أن تمنحنا ترف التردد فالفرص كما نرى تمر كبرقٍ عابر، والوقت يذوب كملحٍ في بحر الانشغالات فمن لا يجرؤ على اتخاذ القرار، يراه يتخذ عنه — لصالح من كان أجرأ، لا أذكى فحتى وإن كنت تعبر الجحيم، لا تتوقف.
فالتحرك، ولو نحو المجهول، أكرم من الوقوف في منتصف الطريق والقرار الجريء، حتى إن كان خاطئاً، يعلّمك ويصقلك ويقودك إلى النضج، أما التردد، فيُميت فيك القدرة على التعلّم لأنك ببساطة لم تبدأ.
لقد مات حمار بوريدان بين القش والماء، لكن كم من البشر اليوم يموتون بين خيارٍ وخيار، بين خوفٍ وجرأة، بين ما يريدون فعله وما يخشون نتائجه.
إن الحياة لا تكافئ من ينتظر الكمال، بل من يختار. فاختر، ولو مرةً، بثقةٍ تامة أن الخطأ الذي تتجاوزه خيرٌ من الصواب الذي لم تجرؤ على أن تحياه.
فالتردد ليس حذراً، بل هو خوفٌ متخفٍ في ثوب التعقل. يبرر لنفسه الانتظار ويخفي في عمقه رهبةَ الفقد وخشيةَ الفشل، وعدمَ الثقة بقدرتنا على النهوض بعد العثرة. لكنه في الحقيقة، يقتل أكثر مما يُنقذ، ويُطفئ جذوة السعي قبل أن تشتعل.
ومن يتردد، يظل واقفاً على حافة الحياة، يراقب المارين بثقة، يتمنّى لو أنه خاض التجربة، أو طرق الباب، أو نطق الكلمة التي احتبسها في حلقه طويلاً. والفرص لا تنتظر، فالوقت في هذا العصر لا يلتفت لمن لم يحسم أمره.
ولابد أن نعي أن القرارات المدروسة لا تحتاج زمناً طويلاً، بل تحتاج شجاعةً لحظة. لحظةٌ واحدة كفيلة بأن تغيّر مسار العمر. أما من يطيل التردد بحثاً عن الكمال، فلن يجد إلا الحسرة، لأن الكمال ليس في الفعل الصحيح دائماً، بل في الفعل ذاته، في الجرأة على اتخاذ الخطوة الأولى.
فالتردد مقبرة الطموحات، وصوتٌ داخلي يهمس لنا بالثبات في أماكننا بينما العالم يتغير من حولنا. والخروج من دائرته ليس خياراً سهلاً، لكنه بداية حياة حقيقية، حياةٍ تُبنى على التجربة لا على التخوف.
اتخذ قرارك… فحتى الخطأ في السير، خيرٌ من الوقوف في منتصف الطريق. إن كان هدفك دنيويٌ أو اخروي فلا الحياة تنتظرك لتسعى ولا الموت يمنحك المهلة.








اضافةتعليق
التعليقات