جلستُ صباح يوم ميلادي، أتأمل نفسي أمام المرآة ذات الإطار بلون صحراوي. كانت انعكاسًا يذكرني ببعض أيامي البالية والحزينة التي مررت بها طوال الأعوام الثلاثة والعشرين الماضية، سنوات تشكلت فيها ملامحي بقسوة التجارب ولينها.
بلحظةٍ اخرى التفتُ إلى كتاب كنت قد أتممت قراءته قبل أيام بجانب سريري، يطغى على غلافه اللون الأخضر، ما أشعرني بالراحة وأعاد إليّ التأمل فيما أنا فيه. في تلك اللحظة، لم يكن الكتاب مجرد قراءة، بل كان رمزًا للنمو والبعث بعد الجفاف.
نظرتُ إلى أرجاء غرفتي الجديدة بكل تفاصيلها. تلك اللوحة القابعة على المنضدة الآن، لو كنت كما كنت لجعلتهُ مكانًا لأوراقي وأحبار الكتابة، تلك التحفة التي تحمل لمسة عاطفية، كانت يومًا ما موضع شمعة أو جهاز الراديو الذي يصاحبني بالموسيقى الهادئة. حتى هذه الأشياء التي نظنها ثابتة يمكن أن تتبدّل فجأة، لمجرد أن أولوياتنا تغيّرت، أو أن أشخاصًا جدد دخلوا حياتنا، أو أن قلوبنا اتسعت أو ضاقت بما نمرّ به.
حين فكرتُ في ذلك، أدركت أن الإنسان يتغير من سنةٍ إلى أخرى بشكل أعمق بكثير مما نرى. فكيف لا تتغير نظرياتنا الكبرى وأحلامنا الواسعة إذا كانت أدق اهتماماتنا تتبدل للحظة واحدة؟
عاودت النظر إلى المرآة، ثم فردت قامتي وفتحت شباك غرفتي التي تطل على عشرات البنايات والغرف والشبابيك. مدينة يسكن فيها آلاف الناس، لكل واحد منهم قصة تختلف عن الآخر. نظرت لحظة إلى السماء التي أشعر أنها قريبة مني وأنا أسكن في الطابق العاشر. هنا، في هذه النقطة المرتفعة، أدركتُ كم تغيرت من الأمور في حياتي... وأولها دخولي للحياة الزوجية، وهذا ما جعلني أشعر بثمن أيامي أكثر.
إن الانتقال من عام إلى آخر ليس مجرد شمعة إضافية نضيئها على كعكة، أو رقم يتغير في خانة العمر. إنه في الحقيقة عملية تحول جوهري صامت نمر بها في هذا العام تحديداً، قد نكتشف كم تغيرت شخصيتنا؛ من ردود أفعال كانت غاضبة إلى أخرى أكثر حكمة، ومن تسرع في الحكم إلى قدرة على التروي والتفهم.
بتبدل الأهداف والأحلام: تتغير أيضاً أهدافنا ونظرياتنا التي كنا نعتنقها. الهدف الذي كان بالأمس محور الكون قد يتضاءل اليوم أمام هدف نبيل لم نكن نراه. تتبدل الأحلام فتصبح أكثر واقعية وعمقًا أو ربما أكثر جنونًا وطموحًا. هذه التحولات هي دليل على أننا أحياء ونتطور، وليست علامة على التذبذب، بل برهان على أن الخبرة تُعيد تشكيل بوصلتنا الداخلية.
بالنسبة لي، كان دخول الحياة الزوجية هو المفتاح الذي جعلني أشعر بثمن أيامي أكثر. فعندما تصبح حياتك متشابكة مع روح أخرى، يصبح استغلال الوقت مسؤولية مشتركة، واليوم الذي يمر لا يخصك وحدك، بل يخصكما معًا في بناء مستقبل مشترك.
وكان لابد من أن أعرج على مسألة مهمة فقد نسمع الكثير من الناس يقولون أن "العمر مجرد رقم".
فلا يخدعنّا هذا القول إنه مغالطة خطيرة. العام الذي مضى هو سنة مضت دون عودة، هي أيام وساعات استُنفدت من رصيدنا، لا يمكن استرجاعها ولا استبدالها. هذه هي العبرة الأوضح: قيمة الزمن لا تقاس بما نملكه في البنك، بل بما أنجزناه في هذه الأيام التي لن تعود.
في النهاية، وقفتي أمام المرآة ثم شباك المدينة ليست وقفة حزن على ما فات، بل هي تأكيد لثمن كل دقيقة قادمة. لقد تعلمت أن الحياة ليست مجرد تراكم سنوات، بل هي عمق التجربة، وصدق النية في استغلال كل نفس.
عام مضى، لم يذهب هباءً، بل ترك وراءه شخصية أكثر نضجًا ووعيًا. فيومُ الميلاد هو أعظم هدية من الله لاستغلال ما تبقى من حياتنا بأثر وفائدة.








اضافةتعليق
التعليقات