في زوايا الحديث اليومي، لا بد أن نصادف ذلك الصوت الواثق أكثر مما يجب، الذي لا يترك لك فسحة للتعبير، ولا يعترف بوجود احتمال الخطأ في ضفته من الحوار. صوتٌ يقطع الطريق على الحقيقة بإسم الحقيقة ذاتها، ويجعل من نفسه ميزاناً للعقل والعلم، وكأن الوجود نفسه يدور حول فكرة واحدة: أنه لا يُخطئ أبداً.
لكن لنسأل: ماذا لو جرّب هذا الكائن، ولو لمرةٍ واحدة، أن يقول ببساطةٍ وصدق: «ربما أكون مخطئاً»؟
ألن تكون تلك الجملة الصغيرة بداية ثورة داخلية، وانعطافة نحو النضج الإنساني؟
فحتى أعظم العلماء لم يَبنوا عظمتهم على العصمة، بل على قدرتهم في شجاعة الاعتراف بالخطأ، وفي مراجعة أفكارهم كلّما اتّضح ضوء جديد في الأفق.
إن الإنسان الذي يصرّ على أنه "دائماً على صواب" لا يعيش يقين الحقيقة، بل يرزح تحت عبودية وهم المعرفة المطلقة، تلك الحالة التي يصفها علم النفس بأنها شكل من أشكال الانغلاق الذهني؛ حيث يتجمد الفكر في قوالب الرأي، ويُصاب العقل بالعمى الذاتي، فلا يرى إلا انعكاس صورته في مرآة ذاته.
إن هذا النموذج من البشر لا يدافع عن فكرةٍ بقدر ما يدافع عن هشاشته الداخلية، عن ذاته المرتجفة خلف قناع الثقة الزائفة. إن عناده ليس قوةً، بل خوفاً متقن التنكر، وجهله ليس عيباً في التعلم، بل استكبارٌ على التعلم نفسه. إنه لا يتحاور ليقترب من الحقيقة، بل ليثبت أنه الحقيقة.
ومن العجيب أن هذا السلوك الذي يبدو في ظاهره صلابة فكرية، هو في جوهره صرخة خفية من شعورٍ دفينٍ بعدم الكفاية. فحين يفتقر المرء إلى قيمة معرفية حقيقية، يحاول تعويضها عبر فرض سلطته في النقاش، كمن يرفع صوته حين تخونه حجّته.
إن أخطر ما في وهم الكمال المعرفي أنه يمنع صاحبه من النمو. فالفكر الذي لا يقبل أن يتغير، يتعفّن في مكانه. والعقل الذي لا يعترف بالجهل لا يعرف الطريق إلى العلم.
وهكذا، بين الغرور والجهل، يضيع الإنسان في صدى صوته، لا يسمع إلا نفسه، ولا يرى إلا ظلّ أفكاره القديمة.
إنه يعيش أسير ذاته، بينما الحقيقة تمضي من أمامه، في طريق لا يُدركه إلا من امتلك فضيلة الشك، وشجاعة التواضع.
فما أعظم أن يقول الإنسان:
"قد أكون مخطئاً، فلنتأمل معاً."
جملة واحدة، لكنها تحمل في طيّاتها جوهر الإنسانية: أن نكون عقولاً تتطور، لا تماثيل تعبد أفكارها القديمة.
إن الإنسان الذي يجرؤ على الاعتراف بجهله، حتى ولو لمرة واحدة، يفتح لنفسه أبواباً لا تُحصى من الحكمة. ففي لحظة تواضعه، يتحول الجدار الذي كان يقف أمامه إلى نافذة يرى من خلالها العالم بألوانه الحقيقية، لا بمرآة أوهامه.
التطور الإنساني ليس في التشبّث بالماضي أو في فرض الرأي على الآخرين، بل في القدرة على الرحيل عن الأنا والارتقاء فوقها، نحو فضاءات واسعة من الفهم، حيث تتلاقى الأفكار، وتتقاطع الرؤى، ويولد التفكير الحر من رحم الشك البنّاء.
ولعل أعظم سر في هذه الحياة، أن ندرك أننا لا نملك الحقيقة المطلقة، بل نحن مسافرون في رحلة البحث عنها. وفي هذا الإدراك يكمن الجمال، وفي هذا التواضع تنمو الحكمة. فلتكن أخطاءنا مدارسنا وشكوكنا بوصلتنا وتواضعنا مرشدنا في مسيرة الوعي التي لا تنتهي.
فمن اختار أن يعيش فوق وهم الكمال، فقد خسر الحياة الحقيقية، أما من اختار أن يكون إنساناً عارياً من غروره، متواضعاً أمام الكون، فقد اكتسب أعظم ما يُمكن أن يكتسبه المرء: نفسه.








اضافةتعليق
التعليقات