في حياة الإنسان، تبقى الكلمة أكثر من مجرد صوتٍ يخرج من الفم؛ إنها كائنٌ حيّ، يولد من نيةٍ، وينمو في الوعي، وقد يشفى بها قلب أو يُجرَح بها وجدان. ولذلك، ليست كل كلمةٍ تُقال جديرة بالمدح، ولا كل صمتٍ يلوح عجزًا.
يقول أحد الحكماء: “أحيانًا.. لا تُبالغ في المجاملة حتى لا تقع في بئر النفاق، ولا تُبالغ في الصراحة حتى لا تقع في وحل الإساءة.”
جملةٌ تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل في عمقها ميزان الأخلاق الدقيقة بين نُبل الصدق وأناقة المجاملة، بين الحقيقة العارية واللطف المغلف بالسكوت.
المجاملة حين تتنكّر بوجه النفاق:
المجاملة في أصلها لُطفٌ إنساني، تُقال لتُليّن القلوب وتُهذّب الاختلاف، لكنها حين تخرج من فمٍ لا يصدّق ما يقول، تتحوّل إلى شكلٍ من أشكال الزيف الاجتماعي.
إنها حينذاك لا تُجمّل، بل تُضلّل. فهي لا تُنقذ مشاعر الآخرين بقدر ما تُطفئ شعلة الصدق في داخلنا، وتجعلنا أسرى لرضا الناس أكثر من رضانا عن ذواتنا.
والمؤلم أن كثيرين اليوم يمارسون المجاملة كما لو كانت طوق نجاة في بحر العلاقات، يبتسمون حيث يجب أن يصمتوا، ويثنون حيث يلزم النقد، فيتحوّل التودّد إلى عبوديةٍ اجتماعيةٍ مغلفةٍ بالأدب.
لكن الأدب الحقيقي ليس في أن تُرضي الجميع، بل في أن تقول ما تؤمن به دون أن تُهين أحدًا.
الصراحة.. حين تفقد إنسانيتها:
في الجهة المقابلة، يتذرّع البعض بالصراحة ليُخفي قسوةً دفينة في نفسه. يقول الحقيقة بحدةٍ جارحة ثم يتباهى بأنه “لا يعرف المجاملة”، متناسيًا أن الكلمة يمكن أن تقتل المعنى حين تُقال دون حكمة.
الصراحة قيمةٌ أخلاقية عالية، لكنها إن تحرّرت من رحمة القلب، هبطت إلى درك الإساءة.
فليست البطولة أن نُفصح عن كل ما نراه، بل أن نعرف متى وكيف نقول ما نراه. فالحقيقة التي تُقال في غير أوانها تُصبح ظلمًا، والصدق الذي يخلو من التعاطف يُصبح وحشًا متخفيًا في ثوب الفضيلة.
ومن هنا تتجلّى حكمة القول: الصراحة ليست أن تقول كل شيء، بل أن تقول ما يجب أن يُقال بطريقةٍ تُبقي للآخر كرامته وللحقيقة بهاءها.
بين البئر والوَحل.. يقف الإنسان الواعي:
الإنسان الواعي هو من يقف على الحدّ الفاصل بين البئر والوَحل، بين النفاق والإساءة، بين لُطفٍ كاذب وصدقٍ جارح.
إنه يدرك أن القول مسؤولية، وأن الكلمة قد تُبنى بها جسور الثقة أو تُهدم بها قلوبٌ صالحة.
التوازن هنا ليس ضعفًا، بل قوة الحكمة؛ أن تمتلك القدرة على الصدق، ولكن تضبط اندفاعه بميزان الرحمة. أن تُجامل دون أن تُنافق، وأن تصدق دون أن تُهين.
الحياة تحتاج إلى هذا النوع من الذكاء الأخلاقي؛ ذكاءٍ يعرف أن كل إنسانٍ يحمل هشاشته الخاصة، وأن اللين في القول لا يُضعف الحق، كما أن الصمت أحيانًا أبلغ من ألف حقيقةٍ فظة.
ففي النهاية، لا الفضيلة في الصراحة المطلقة، ولا في المجاملة المطلقة، بل في التعبير عن الحقيقة بلغةٍ تحفظ الإنسانية.
وهنا يتضح لنا أن تبقى الكلمة مرآة الوعي، تكشف عن مستوى الإنسان في فهمه لذاته وللآخرين. ليست الحقيقة ما نقوله، بل كيف نقوله. فالصراحة التي لا تعرف الرفق ليست شجاعة، بل جهلٌ بمواطن الجمال في النفس البشرية، والمجاملة التي تفقد الصدق ليست أدبًا، بل هروبٌ أنيق من المواجهة.
وأن الحق يحتاج إلى لسانٍ رحيم، كما يحتاج الجمال إلى عينٍ صادقة.
ولأن الإنسان كائنٌ من توازن، لا من تطرف، فإن فضيلته العظمى أن يكون قادرًا على أن يقول الحقيقة دون أن يُطفئ ضوء اللطف، وأن يُمارس اللطف دون أن يُطفئ نور الحقيقة.
فليكن قولنا إذًا، لا حادًّا كالسكين، ولا ناعمًا كالدخان، بل كالماء: صافيًا، صادقًا، يلامس دون أن يجرح، وينقي دون أن يُهين.








اضافةتعليق
التعليقات