يُعد حديث الكساء مدرسة تربوي متكاملة تصور لنا الأنموذج الأمثل للحياة الأسرية الطيبة والهانئة، تلك التي تبدأ من وجود امرأة صالحة مباركة تُديِّر ذلك الدار، ومن أفضل من السيدة الصديقة الزهراء (عليها السلام) لتكون الإنموذج المتكامل، بلا شك! لا يوجد.
لذا سنذكر بعضًا من ملامح شخصية السيدة الزهراء (عليها السلام) التي تحتاجها كل بنت وزوجة وأم عبر التأمل ببعض فقرات هذا الحديث المبارك لنتعلم منها:
الكهف الآمن للأب والزوج
في بداية الحديث نقرأ: [عَنْ فَاطِمَةَ ٱلزَّهْرَاءِ (عَلَيْهَا ٱلسَّلاَمُ) بِنتِ رَسُول اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ قَالَ: [سَمِعْتُ فَاطِمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ أَبِي رَسُولُ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فِي بَعْضِ ٱلأَيَّامِ فَقَالَ: ٱلسَّلاَمُ عَلَيْكِ يَا فَاطِمَةُ، فَقُلْتُ: وَعَلَيْكَ ٱلسَّلاَمُ، قَالَ: إِنِّي أَجِدُ فِي بَدَنِي ضَعْفاً]، هذه الفقرات تبين إنها (عليها السلام) كانت موطن السكن والسكينة لأبيها (صلى الله عليه وآله)، فهي (عليها السلام) لا سواها كلما ألم به ضعف في بدنه قصدها، كيف لا! وهي من اشتهرت بلقب "أُم أبيها".
وما نتعلمه هنا إن وجود البنت في بيت أبيها وطبيعة علاقتها به من حيث الحنو والعطف والإيواء هي الأصل، وتمتد حتى بعد أن تنتقل إلى بيت الزوجية، بل يُفترض إنها تزداد لا العكس، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى تتوسع وتمتد إلى علاقتها بزوجها، فهي (عليها السلام) كانت كذلك لزوجها علي (عليه السلام) فهو القائل: "ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان" (١)، وهذا أول درس تربوي نتعلمه كنساء من السيدة (عليها السلام) إن أردنا أن نصنع أسر تنعم بحياة طيبة مفعمة بالاحتواء.
المنطق الطيب والسلوك الحَسن يثمر سريعًا
في رد السيدة (عليها السلام) على ما ألم بأبيها من ضعف، قالت: [أُعِيذُكَ بِاللهِ يَا أَبَتَاهُ مِنَ ٱلضَّعْفِ]، نلحظ في منطقها أنه كان طيبًا ممزوجًا بذكر الله تعالى والتوجه إليه، ثم كان سلوكها لما طُلب منها بقوله: [يَا فَاطِمَةُ ٱئْتِيْنِي بِالْكِسَاءِ الْيَمَانِي فَغَطِّينِي بِهِ، فَأَتَيتُهُ بِالْكِسَاءِ الْيَمَانِي فَغَطِّيْتُهُ بِهِ وَصِرْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَإِذَا وَجْهُهُ يَتَلأْلأْ كَأَنَّهُ الْبَدْرُ فِي لَيْلَةِ تَمَامِهِ وَكَمَالِهِ]، فهي (عليها السلام) لم تكتفِ بإعطاءه الكساء وتغطيته كما طُلب منها بل بادرت بما هو أكثر: البقاء بقربه، والنظر إليه؛ فزادت بالامتثال لما طُلب منها، فظهر أثره العميق في النبي (صلى الله عليه وآله) وذلك بقولها (عليها السلام): [وَإِذَا وَجْهُهُ يَتَلأْلأْ كَأَنَّهُ الْبَدْرُ فِي لَيْلَةِ تَمَامِهِ وَكَمَالِهِ].
وهذا سلوك نفتقده كثيرًا في تعاملاتنا كأبناء مع الآباء، خاصة في فترات ضعفهم ومرضهم، فهم يحتاجون منا هكذا منطق وهكذا تعامل، وهكذا اهتمام وعناية؛ فكما يعبرون اليوم إن الدعم المعنوي والاحتواء النفسي للمريض يرفع من مناعته، فينقله من ضعفه إلى القوة ومن بطئ الشفاء إلى سرعته، وكلما كان هذا الدعم ممن هم بدرجة القرابة الأولى كلما كان نتيجة ذلك أظهر .
ربة البيت وسر حيويته
نقرأ في فقرات هذا الحديث: [فَمَا كَانَتْ إِلاَّ سَاعَةً وَإِذَا بِوَلَدِي الْحَسَنِ قَدْ أَقْبَلَ وَقَالَ: ٱلسَّلاَمُ عَلَيْكِ يَا أُمَّاهُ، فَقُلْتُ: وَعَلَيْكَ ٱلسَّلاَمُ يَا قُرَّةَ عَيْنِي وَثَمَرَةَ فُؤَادِي، فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ إِنِّي أَشُمُّ عِنْدَكِ رَائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّهَا رَائِحَةُ جَدِّي رَسُولِ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فَقُلْتُ: نَعَمْ إِنَّ جَدَّكَ تَحْتَ الْكِسَاءِ].
ونقرأ: [فَمَا كَانَتْ إِلاَّ سَاعَةً وَإِذَا بِوَلَدِيَ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ ٱلسَّلاَمُ أَقْبَلَ وَقَالَ: ٱلسَّلاَمُ عَلَيْكِ يَا أُمَّاهُ، فَقُلْتُ: وَعَلَيْكَ ٱلسَّلاَمُ يَا وَلَدِي وَيَا قُرَّةَ عَيْنِي وَثَمَرَةَ فُؤَادِي، فَقَالَ لِي: يَا أُمَّاهُ إِنِّي أَشُمُّ عِنْدَكِ رَائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّهَا رَائِحَةُ جَدِّي رَسُولِ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فَقُلْتُ: نَعَمْ إِنَّ جَدَّكَ وَأَخَاكَ تَحْتَ الْكِسَاءِ].
وكذلك نقرأ: [فَأَقْبَلَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبْو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: ٱلسَّلاَمُ عَلَيْكِ يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ، فَقُلْتُ: وَعَلَيْكَ ٱلسَّلاَمُ يَا أَبَا الْحَسَنِ وَيَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ إِنِّي أَشَمُّ رَائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّهَا رَائِحَةُ أَخِي وَٱبْنِ عَمِّي رَسُولِ اللهِ، فَقُلْتُ: نَعَمْ هَا هُوَ مَعَ وَلَدَيْكَ تَحْتَ الْكِسَاءِ].
من الفوائد الجميلة التي تُستلهم من هذه الفقرات هي أنها تعطينا صورة عن البيت الحي، الذي أفراده في حالة اتصال وتواصل، إذ إن الفقرات تقول: ما أن أقبل الإماميين للدار حتى قصدا أمهما، وما أن أقبل الإمام علي (عليه السلام) حتى بادر بالسلام على السيدة الزهراء (عليها السلام).
وهذا ما بدأت البيوت تفقده شيئاً فشيئاً، فالداخل للدار لا يعلم بمن هو خارج منه، والمقبل إليه غير ملتفت لمن هو فيه، يجتمعون تحت سقف واحد، ولكنهم بعيدين.. متفرقين بقلوبهم عن بعضهم البعض!.
ولعل سر من أسرار هذه الحيوية وهذا التآلف في بيت علي وفاطمة (عليهما السلام) هو في هذه العبائر نفسها، إنه سعة صدر ربة البيت، فلو تأملنا بردود السيدة عند إقبال ولديها ووالدهم، لوجدنا أنها في كل مرة تجيب وكأنها تجيب لأول مرة، وكأنها لم تُسأل هذا السؤال من قبل، فكلما كانت هذه الروحية موجودة في ربة البيت؛ كان كل من حولها مقتبسًا منها، فيغدو متفاعلاً لا منزويًا، متقربًا لا بعيدًا، وهذا سر فاطمي جميل يمكن أن نفتح عبره باب من أبواب السعادة الأسرية في بيوتنا.
——————








اضافةتعليق
التعليقات