في الثالث من كانون الأول من كل عام، يتجه العالم بأنظاره نحو فئة تمتلك من القوة والإرادة ما يفوق حدود الإعاقة الجسدية أو الحسية أو الذهنية، إنه اليوم العالمي لذوي الهمم، يومٌ يُذكرنا بأن العجز الحقيقي ليس في الجسد، بل في المجتمعات التي لا تمنح الفرص، إنها مناسبة عالمية تؤكد أن الإنسان يمكن أن ينهض مهما كانت التحديات.
(بشرى حياة) تأخذنا لحكايات لا تنتهي عن أصحاب الهمم في يومهم العالمي…
سجاد المصور
كانت قدماه عاجزتين عن حمل جسده الصغير، فالألم الذي استنزف قواه رويدًا في غياهب المرض قد بنى بقلبه إشراقة أمل لحياة أخرى تنتظره في الجانب الآخر، حيث أبى الاستسلام لقدره بعدما خسر قدميه بعمر السابعة سنوات، فتخطّى بالإرادة والإيمان تلك المرحلة بإعجاز.
سجاد رزاق الهلالي من مواليد 1997 من مدينة بابل العريقة، افتقرت طفولته إلى متعة اللعب مع أقرانه ليختزل ذكريات لربما يسردها لأطفاله يومًا ما، فقد خطّ له المرض ذكريات تتأرجح بين ردهات المشافي، فقد كان يعاني من التهاب في الأعصاب وانسدادات بالأوعية الدموية السفلى، وبعد رحلة علاج طويلة انتهت بسفر ذويه خارج البلاد لخلاص روح صغيرهم من وطأة الألم، ليعود إلى الديار على كرسي متحرك.
حدثنا قائلًا:
لا أود الحديث عن طفولتي التي أصبحت حبيسة الكرسي، إلا أنني كنت أنظر بقلب طفل بريء إلى الحياة لأنسج من بريق الأمل الذي اعتراني درعًا من الإرادة، ما زلت أذكر جدي حينما كان جالسًا بمحاذاتي بعدما خرجت من ردهة الإفاقة، يرمقني بنظرات اختزلت دموعه، ثم ناولني صندوقًا صغيرًا أدركت بأنه هدية، ولأنني كنت أحمل براءة الطفولة آنذاك، تناسيت الألم وفقداني لقدميّ وفرحت بهدية جدي، التي كانت عبارة عن كاميرا للتصوير الفوتوغرافي.
عاد سجاد لممارسة حياته الطبيعية، فلم يقف منكسِرًا حتى بعدما أصبح من ذوي الاحتياجات الخاصة، التحق بالمدرسة، غير أن مراحل العلاج بعد البتر كان لها تأثير كبير، مما جعله يتغيب كثيرًا ويترك مقعد الدراسة مرات عدة وصولًا إلى المرحلة المتوسطة، كان عزاؤه الوحيد في كاميرا جده، حيث بدأ من خلالها توثيق المناسبات الخاصة، لينطلق في عالم التصوير، ويصبح مصورًا معروفًا بين أقرانه.
رقية تتحدى الظلام
مستعينة عن النظر باللمس، وعن التدقيق بالخيال، لتكون النتيجة كاتبة ملهمة وقارئة حاذقة لديها كمٌّ من المخزون الثقافي الذي أتاح لها أن تنهي مسيرتها التعليمية الأكاديمية، وتلتحق بالدراسات العليا، وتنال شهادة الماجستير في القانون العام، لتزاول عملها كتدريسية جامعية في أروقة جامعة الزهراء (عليها السلام) للبنات في مدينة كربلاء المقدسة.
هذا أيسر ما يفاجئك به رقية علي الزبيدي الكفيفة، التي احترفت في مجال الأدب والتدريس، فالعزيمة والإرادة لا تعترف بشيء اسمه إعاقة.
حدثتنا قائلة:
منذ طفولتي وأنا أحمل معي أحلامًا كبيرة تفوق حجم عالمي المظلم الذي أنرته بإرادتي، أنا لا أملك كلمة أصف بها حجم الألم الذي حملته معي عبر سنوات رحلتي العلاجية منذ أن كان عمري أربعين يومًا إلى الآن.
لقد اعتدت أن أضع بديلًا لكل شيء، فلا يوجد في مفكرتي شيء اسمه مستحيل، وهذا ما جعلني أصل إلى ما أنا عليه الآن، إذ استعنت ببرامج مختصة لقراءة الكتب التعليمية لأعتمد على نفسي دون اللجوء إلى المساعدة، فقد كانت والدتي قبل ذلك تسجل لي جميع دروسي على جهاز (الآيباد) للاستماع إليها وحفظها، كما أن هناك الكثير ممن تحدّوا ظلام القدر ليصبحوا عناصر فاعلة في المجتمع، وها أنا اليوم أحصد نتاج ما غرسته وأثبت ذاتي لنفسي ولكل الناس.
شُهب تتحدث بالرسم والألوان
فرشاتها كان صوتها، فعلت صمتها بالرسم والألوان، لتطرز بلمستها العفوية الحياة، حيث جسدتها عبر لوحاتها التي تميزت بطابع ينقلنا بين البساطة والجمال ووهج من الإبداع.
شُهب محسن فتاة في عقدها العشرين، لكن حركاتها توحي بأن الطفولة ما زالت تسكن داخلها، وأحلامها الصغيرة تصاحبها في كل مكان، اكتسبت مهاراتها الفنية بالفطرة، فهي لم تلتحق في معهد أو جامعة تخصصية بهذا الجانب، حيث وجدت الدعم والإسناد من أسرتها، إذ تبنت والدتها هوايتها منذ صغرها، حيث كانت تجلس بمحاذاتها لتساعدها على تطوير مهاراتها الفنية، وحينما بلغت التاسعة من عمرها التحقت بمدرسة خاصة لشريحة الصم والبكم، لتسجل بذلك بداية انطلاقتها في تحقيق حلمها بأن تكون فنانة لأعمال متميزة.
ناشطة مدنية
تحدثتنا سارة محمد، ناشطة في مجال حقوق ذوي الهمم، قائلة:
ما نحتاجه ليس الاحتفال فقط، بل تغيير النظرة المجتمعية من الشفقة إلى الشراكة، وبنظرة “نحن قادرون فقط نحتاج الفرصة”.
وقال مسلم علي هادي، والد طفل من ذوي الهمم:
> رقيه تاج: التحدي الأكبر ليس إعاقة ابني، بل الإعاقة الفكرية لدى بعض المؤسسات التي لا توفر بيئة مناسبة، نأمل أن يكون هذا اليوم له تأثير إيجابي لبداية إصلاح حقيقي.
فيما قالت هدى أسعد، مدرسة تربية خاصة:
إن الله يهب لهذه الشريحة صفات مميزة، حيث يهبهم العزيمة والإصرار، إني أرى في طلابي قوة لا تُصدق، وكل همهم أن يحصلوا على تعليم ميسر يفتح لهم باب المستقبل.
رؤية اجتماعية
ترى الباحثة الاجتماعية أن اليوم العالمي لذوي الهمم يمثل فرصة لإعادة التفكير في شكل المجتمع الذي نريده، فالمشكلة لا تكمن في الإعاقة بحدّ ذاتها، بل في البيئة الاجتماعية غير المهيأة التي تحول الشخص من قادر إلى عاجز.
وأضافت:
أن الدمج المجتمعي ما يزال ناقصًا في كثير من الدول العربية بسبب ضعف البنى التحتية وصعوبة الوصول إلى الخدمات، نحن بحاجة إلى سياسات تدعم تعليمًا شاملًا وتوظيفًا عادلًا، وبيئة حضرية تراعي احتياجات ذوي الهمم.
وختمت حديثها:
إن اليوم العالمي لذوي الهمم يوم مهم لأنه يضع الحكومات أمام مسؤولياتها، ويذكر المجتمع بأن الإعاقة ليست قضية فردية، بل قضية تنموية وإنسانية.
رؤية نفسية
من جهتها توضح الاستشارية النفسية نور مكي الحسناوي أن الدعم النفسي جزء أساسي من تمكين ذوي الهمم، فالعزلة والشعور بالاختلاف هما أكثر ما يرهق هذه الفئة، وليس الإعاقة نفسها، فحين يُعامل الشخص بنظرة شفقة أو تمييز، فإن ذلك ينعكس على تقديره لذاته، وقد يسبب اكتئابًا أو انسحابًا اجتماعيًا.
وتابعت بالقول:
إن الدعم النفسي لا يعني العلاج فقط، بل توفير بيئة آمنة يشعر فيها الفرد بأنه جزء من المجتمع، وأن قدراته معترف بها، وأن اليوم العالمي لذوي الهمم يساهم في كسر الصور النمطية وتعزيز الوعي بأن الصحة النفسية لذوي الهمم لا تنفصل عن احترام حقوقهم ودمجهم الحقيقي.
اليوم العالمي لذوي الهمم
اعتمدت الأمم المتحدة 3 ديسمبر عام 1992 يومًا عالميًا لذوي الهمم بعد إعلان برنامج عالمي لتحسين أوضاع الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة.
وتنبع أهمية هذا اليوم من كونه منصة عالمية لتسليط الضوء على حقوق ذوي الهمم ودعوة لمراجعة التشريعات والسياسات لضمان اندماجهم في التعليم والعمل والمجتمع.
وتذكيرًا بأن الإعاقة ليست عائقًا أمام الإبداع، بل قد تكون دافعًا لابتكار طرق جديدة للإنجاز، مما يجعله فرصة لتعزيز الوعي المجتمعي ونشر ثقافة التقبل بدل الشفقة.
الهدف من اختيار هذا اليوم هو إعادة تأكيد حقوق الإنسان العالمية وعدم ترك أحد خلف الركب، وحثّ دول العالم على اتخاذ خطوات عملية لإزالة العوائق التي تمنع مشاركتهم الكاملة، لتعزيز مفهوم الدمج والمساواة في كل المجالات مثل الصحة والتعليم والبيئة والتكنولوجيا وفرص العمل.
مسك الختام
اليوم العالمي لذوي الهمم ليس مجرد مناسبة سنوية، بل مرآة لضمير العالم، هو اختبار لمدى إنسانيتنا، وقدرتنا على بناء مجتمع يفتح أبوابه للجميع دون استثناء، فقصص النجاح ليست مجرد حكايات ملهمة، بل دليل حيّ على أن الاستثمار الحقيقي هو في الإنسان… كل إنسان.

















اضافةتعليق
التعليقات