لجة هذه المشكلة، فرضنا شروطاً على إعلانات السجائر، بحيث بات يصعب كثيرا على شركات التبغ أن تكذب. كما رفعنا سعر السجائر، وفرضنا قانوناً يمنع بيع السجائر للقاصرين في محاولة لتصعيب شراء السجائر بالنسبة إلى المراهقين. وأقمنا حملات مكثفة حول الصحة العامة في التلفزيون، والراديو، وفي المجلات لمحاولة تثقيف المراهقين بشأن مخاطر التدخين. لكن اتضح جلياً أن هذه الطريقة غير فعالة جدا.
لم نظن مثلاً أن أساس محاربة التدخين هو تثقيف الناس بشأن مخاطر التدخين؟ قام عالم الاقتصاد في جامعة هارفارد، و. كيب فيسكوسي، أخيراً بسؤال مجموعة من المدخنين عن عدد السنوات التي يكلفها التدخين من عمر الحادية والعشرين وما فوق. قالوا تسع سنوات. لكن الجواب الحقيقي هو ست، أو سبع سنوات. المدخنون ليسوا مدخنين لأنهم يقللون من مخاطر التدخين. فهم يدخنون حتى لو أفرطوا في تقدير مخاطر التدخين. ومثلما يقول لك أهل كل مراهق، يوحي التناقض الأساسي لدى المراهقين بأنه كلما حارب الكبار التدخين، وتحدثوا عن مخاطره أمام المراهقين، ازدادت رغبة المراهقين في تجربته. إذا نظرت إلى تيارات التدخين خلال الأعوام العشرة الماضية تقريباً، تجد أن هذا ما حدث بالضبط. فالحركة المناهضة للتدخين لم تكن يوما أعلى، أو أكثر بروزاً. إلا أن كل الإشارات توح 124 of 98 المضادة للتدخين لا تلقى بين الشباب الترحيب المطلوب. وبين عامي 1993 وطلاب الجامعات الذين يدخنون من 22.3 في المئة، إلى 28.5 في المئة. وبين عامي 1991 و1997، ازداد عدد تلاميذ المدارس الذين يدخنون بنسبة 32 في المئة. والواقع أنه منذ العام 1998، ارتفع العدد الإجمالي للمراهقين المدخنين في الولايات المتحدة بنسبة 73 فيا لمئة. وظهر عدد قليل من البرامج الصحية في الأعوام الأخيرة، والتي قد أخفقت في مهمتها مثلما فعلت الحرب على التدخين. الدرس هنا هو أنه لا يجدر بنا التوقف عن محاربة السجائر. المهم ببساطة هو أن الطريقة التي كنا نفكر وفقها في أسباب التدخين غير مقبولة كثيراً. لهذا السبب، يعتبر وباء الانتحار في ميكرونيسيا لافتا جداً، ومتطابقا مع مشكلة التدخين. إنه يعطينا طريقة أخرى لمحاولة معالجة مشكلة التدخين عند الشباب.
ماذا لو اتبع التدخين النوع نفسه من القواعد، والطقوس الاجتماعية الغامضة والمعقدة التي تحكم انتحار المراهقين بدل اتباع المبادئ العقلانية للسوق؟ وإذا كان التدخين فعلا وباء مثل الانتحار الميكرونيسي، فكيف يغير ذلك من الطريقة الواجب اعتمادها لمحاربة المشكلة؟
الملاحظة الأساسية عند الذين يدرسون الانتحار هي أنه في بعض الأماكن والظروف، يمكن لعملية قضاء الشخص على حياته أن تكون معدية، فالانتحار يقود إلى الانتحار. والرائد في هذا المجال هو دافيد فيليبس، عالم اجتماع في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، والذي أجرى عدداً من الدراسات حول الانتحار، وكانت كل واحدة منها تثير الذهول أكثر من التي قبلها. بدأ بإعداد لائحة بكل قصص الانتحار التي وردت في الصفحة الأولى لمعظم الصحف البارزة في المنطقة، خلال العشرين عاماً الممتدة بين أواخر الأربعينيات وأواخر الستينيات. ثم طابقها مع إحصاءات الانتحار في الفترة نفسها. أراد أن يعرف ما إذا كان هناك أية علاقة بين الاثنين. لا شك في أنه كانت توجد علاقة، فمباشرة بعد ظهور قصص الانتحار، كانت حالات الانتحار في المنطقة التي تصل إليها الصحف ترتفع. وفي حالة القصص الوطنية، ارتفع المعدل وطنياً. (أدت وفاة مارلين مونرو إلى زيادة مؤقتة قدرها 12 في المئة في معدل الانتحار الوطني). ثم كرر فيليبس تجربته مع حوادث السير. أخذ قصص الانتحار المذكورة في الصفحة الأولى من “لوس أنجلوس تايمز"، و"سان فرانسيسكو كرونيكل" وطابقها مع الوفيات الناجمة عن حوادث السير في ولاية كاليفورنيا، ووجد النمط نفسه. ففي اليوم الذي يلي انتحاراً حظي بالكثير من التغطية الإعلامية، كان عدد الوفيات الناجمة عن حوادث السير يزداد بنسبة 5.9 في المئة عما هو متوقع. وبعد يومين من قصة انتحار، كانت وفيات حوادث السير ترتفع بنسبة 4.1 في المئة. وبعد ثلاثة أيام، كانت ترتفع بنسبة 3.1 في المئة، وبعد أربعة أيام ترتفع بنسبة 8.1 في المئة (بعد عشرة أيام، يعود معدل الوفيات نتيجة حوادث السير إلى طبيعته). استنتج فيليبس أن إحدى الطرق التي يعتمدها الناس للانتحار هي تحطيم سياراتهم عمداً، وكان هؤلاء الأشخاص عرضة للتأثيرات المعدية للانتحار الذي يحظى بتغطية إعلامية كبيرة، تماما مثل الأشخاص الذين يقتلون أنفسهم بالوسائل التقليدية. إن نوع العدوى الذي يتحدث عنه فيليبس ليس شيئاً عقلانياً، أو حتى واعياً بالضرورة. فهو ليس مثلا لجدل المقنع.
إنه شيء أكثر دقة من هذا. يقول: “حين أنتظر أمام إشارة المرور، ويكون الضوء أحمر، أتساءل أحياناً ما إذا كان يجدر بي العبور مخالفاً أنظمة السير. ثم يقوم شخص آخر بفعل ذلك، وأنا أفعل ذلك أيضاً. إنه نوع من التقليد. أحصل على إذن للتصرف من شخص آخر يقوم بعمل منحرف. هل هذا قرار واع؟ لا أعرف. قد أتمكن لاحقاً من معرفة الفرق. لكن في الوقت الحاضر، لا أعرف ما إذا كان أي منا يعرف كم قرارنا واع، وكم هو غير واع. القرارات الإنسانية دقيقة، ومعقدة، وغير مفهومة جيدا".
يقول فيليبس وفي حالة الانتحار، يمكن لقرار شخص مشهور بالقضاء على حياته أن يفضي إلى التأثير نفسه: إنه يعطي الأشخاص الآخرين، ولا سيما الذين هم عرضة للاقتراحات بسبب عدم نضوجهم، أو مرض عقلي لديهم، الإذن بالشروع في عمل منحرف أيضاً. يتابع فيليبس “قصص الانتحار هي نوع من الإعلان الطبيعي لاستجابة معينة لمشاكلك. لديك كل أولئك الأشخاص غير السعداء، الذين يواجهون صعوبة في اتخاذ قراراتهم لأنهم مكتئبون. إنهم يعيشون مع هذا الألم. هناك الكثير من القصص التي تعلن عن أنواع مختلفة من الاستجابات على ذلك. يحتمل أن يجري بيلي غراهام حملة صليبية في عطلة نهاية الأسبوع تلك؛ هذه استجابة دينية. أو يحتمل أن شخصا ما يعلن لفيلم خيالي للهروب من الواقع؛ هذه استجابة أخرى. تقدم قصص الانتحار بديلا من نوع آخر”.
فتماماً مثلما يستطيع طوم غو عبر القوة المقنعة لشخصيته - العمل كنقطة تحول في الوباء الشفوي، يعمل الأشخاص الذين يموتون في حوادث الانتحار التي تلقى تغطية إعلانية كبيرة أي الذين يعطي موتهم “إذنا” بالموت للآخرين - كنقاط تحول في أوبئة الانتحار.
المصدر:
اضافةتعليق
التعليقات