كان يومٌ سيء الطقس، جاف ومُشمس تَلُف فيه رياح السموم بين الفينة والأُخرى تنشر الغبار الذي تختنق به شهقات الانفاس، ولكن لا بأس أنا لم اخلف وعدي ذهبتُ لزيارتها كعادتي في كل آخر يوم من أيام الاسبوع، نظرتُ الى الطريق لم ارَ سوى افراد قليلة حتى اصحاب المتاجر بادروا لاغلاقها وقَلَّ سير المركبات بشكل ملحوظ، لا عجب في ذلك فمن الذي يود الخروج في مثل هكذا يوم!.
وَصلتُ الى هناك كان عدد السكان يزداد بصورة هائلة كل واحد منهم قد استقرَّ في مكانٍ ما حيث السلام الذي بحثوا عنه طويلاً، يتوه من يدخل الى ذاك المكان الواسع الذي يكتض بالمساكن المتجاورة الصغيرة جداً، وهو في طريقه الى من يذهب لزيارته يتجول بين اروقتها يقرأ اسماء المقيمين فيها كباراً وصغاراً يتعرف عليهم دون شعور، منهم من يجاور بعض اقاربه، ومنهم الغريب الذي حُشرَ وحيداً في زاويةٍ ما، ففي نهاية المطاف لم تتسع لهم كل الاماكن الموجودة على سطح الارض اكثر مما كان مُقدر، لن يجدوا مستقرا سوى هناك الى حين، ينامون نوما عميقا ينتظرون من يزورهم ويحتسبون ليوم موعود..
إفتَرشتُ الأرض وجَلستُ لأُرتِلَ دعواتي وبعض آيات من الذكر الحكيم، ما ان بَدَأت اجتاحت مسامعي اصواتٌ تقترب شيئاً فشيئا، صياحٌ ونِياح ضجيج وعَويل حُشود اتشحت بالسواد يَقودها رجل يُردد التوحيد وخلفهُ مَن يَحمِلونَ ذلك النعش ويُكررونَ ما يقول، قد جُهِزَ له المكان الصغير جداً في المقبرة الكبيرة جداً!.
أنزلوه في لِحده، لقنوه وقرأوا لهُ ما تَيَسر ثم وَدَعُوه ليهيلوا على جسده التُراب وليَرقُد بسلام داعين لهُ بالرحمةِ والغُفران، ضَج المكان بالبكاء وزحمة الكلام ثم تلاشت الاصوات وذهب الجميع مودعين ذلك الراحل وكأنه لم يكن ..
واذا بها أدركتهم اتت لاهثة تَجُر الحَسرات وتبثُ الآهات تَتَعثر وتَقع ثم تعود لتُكمل مَسيرها و قبل ان تصل اليه ببضع خِطوات سَقطت لتنهار قِواها وتُكمل زاحفةً نحوه الى ان وصلت اليه صَرخت بأعلى صوتها وقبضت على صَم من التراب تنثره على نفسها وهي تَسكب المدامع وتأن بحرقةٍ وتَعَجُب تَهذي كالمجنونة وتقول: ليتني دُفنت معك آهٍ آه يا ويلي مِن بَعدك ما الذي جرى؟ ماذا يعني ألن أراك بعد الآن! مالي بعيونٍ لن تراك فهي لا ترى سواك! ألن تلمس يداك الحنونة يداي؟ ألن اجالسك ثانية هل انتهى الحديث بيننا؟ ما زال لدي الكثير لأخبرك به لمن سأحكي اوجاعي! على صدر من سأغفو، بأمان من الذي سأنتظر عودته كُل يوم لأتنفس ريحه واهيم بعشقه! لاجل من سأعيش لا احد سيأخُذ مكانك لا احد اطلاقا لا يوجد من يشبهك ولن يوجد ابداً، انت روحي التي غادرتني برحليك انا الآن جسد خاوي لا يعيش فيه سوى الصوت الذي يناديك أتسمعني؟ اجبني أرجوك، صرخت بجنون: هلا سَمِعتَني ثم جَثت على القبر واردفت: كيف لكَ ان تَذهب هكذا وتترُكَني لوحدي في هذه الحياة، الدنيا موحشةٌ من دونَك كيف لك كيف ..
ماذا سأصنع يا إلهي لا طاقة لدي على الفُراق ساعدني يا الله..
لا طاقة لدي بعد الآن، اللعنة لعنة الرب على من تسبب في رحيلك مبكراً اللعنة.. اللعنة.. بَقِيَت تَجهش بالبكاء والصخب، قد اصابها شيء من الهيستيريا، بدأ الجو يسوء اكثر فأكثر، تَلبدت السماء وازدادت الاتربة، عصفت رياح هوجاء واحدثت اصوات مُرعبة، لازمها صوت رعد وومضات برق انارت المكان ليهطل من بعدها المطر..
لوهلةٍ انكشفت الرؤيا واذا بها تقف بثبات تَرفع رأسها عالياً لتَمتَزجَ زخات المطر الباردة بزخات دموعها الحارقة، تَنظُر من حولها بَدت رمال تلك المقبرة المُقفرة وكأنها تلمع وقد تغير لونها الى الزهري!.
واصبحت تلك القبور ناصعة وكأنها تحف مزخرفة، وعاد اخضرار الشُجيرات العطشى بعض الشيء، ابتَلت هيَّ بالكامل واصبحت تقطر بدل الدموع مطراً، اغتسلت بمطر نيسان وكأنهُ طَهر قلبها وأعاد اليها روح الامل، فكما رأت وادركت ان بعد كل فراق لقاء .
ها هو المطر ينقذ اليائسين ويخبرهم بأنه مهما طال الفراق لا بد من عودة تُعيد الحياة من جديد حياةٌ ابدية تَتَحقق فيها كل الاحلام والامنيات..
بَقِيَت وَقفةُ المطر لدقائق ثم انتهى، هدأت نفسها ورفعت يديها بالدعاء ثم غادرت لتُودع فقيدها وتنهي زوبعة الالم على أمل اللقاء...
قال تعالى {قلّ آن آلّمٌوتٍ آلّذٍيِ تٍفُرون مٌنهً فُأنهً مٌلّآقيِگٍمٌ ثَمٌ تٍردون آلّى عآلّمٌ آلّغٌيِب وآلّشهًدﺓ فُيِنبئگٍمٌ بمٌآ گٍنتٍمٌ تٍعمٌلّون} سورة الجمعة آية (٨).
اضافةتعليق
التعليقات