لوقت طويل كانت بسمة مصطفى تعتقد أن شعور الضيق والخوف من الفقد الذي يلازمها مرتبط بظروف مؤقتة.
"كنت أشعر بالضيق طوال الوقت، أشعر أنني شخص سيء وأن الناس تنفر منه، كما أن مزاجي متقلب على مدار الساعة، ولدي إحساس دائم بالفراغ والخوف من الفقد".
لكنها شعرت أن في الأمر خطأ ما، عندما استمرت الأفكار السوداوية بمرافقتها حتى بعدما حققت كل ما تريد، "عندما صار كل شيء حولي كما أريد تماما، كنت لا أزال أفكر في الانتحار".
لا تختلف تجربة بسمة كثيرا عن تجربة كثيرين ممن يعانون من اضطراب الشخصية الحدية.
حكت لي بسمة، وهي صحفية مصرية وأم لطفلتين، عن رحلة اكتشافها لإصابتها باضطراب الشخصية الحدية قبل 5 سنوات.
كان الأمر صعبا ومربكا، خصوصا أن الاضطراب الذي أصابها يتشابه مع الكثير من الاضطرابات الشخصية والأمراض النفسية كالاكتئاب والقلق، وهي أعراض غالبا ما تكون مصاحبة له.
ما سبب صعوبة التشخيص؟
تقول الطبيبة النفسية مها محسن إن صعوبة هذا الاضطراب تكمن فى أنه يقف على "الحدود" بين الكثير من الاضطرابات مما يجعل تشخيصه صعبا وعلاجه، بالتالي، في غاية الصعوبة.
وبحسب هيئة الصحة الوطنية البريطانية، تتلخص أعراض اضطراب الشخصية الحدية في: عدم الاستقرار العاطفي، الدخول في علاقات غير متوازنة، القلق من الهجر والتخلي، تبني سلوك مؤذ للذات، فضلا عن الاندفاعّ والتهور، والشعور الدائم بالاكتئاب و القلق والغضب، والمرور بتقلبات مزاجية حادة دون سبب واضح.
وبحسب دراسة صادرة عن المكتبة الوطنية الأمريكية للطب، لا يعد اضطراب الشخصية الحدية واحدا من الاضطرابات الشخصية الشائعة عالميا، حيث يٌشخص نحو 1.6 في المئة من البشر فقط بهذا الاضطراب.
لكن يعتقد أن نسبة الإصابة بهذا الاضطراب قد تكون أكبر من ذلك بكثير، إذ أن انعدام الوعي به وعدم البحث عن مساعدة متخصصة غالبا ما يجعل الأرقام الموثقة للإصابة به أقل بكثير من الواقع.
وتكمن خطورة هذا الاضطراب، بحسب دورية الطب النفسي الصادرة عن جامعة كامبريدج البريطانية في أن 70 في المئة من المشخصين به يحاولون الانتحار مرة على الأقل.
تقول الاختصاصية النفسية شذى عبد الجليل إن اضطراب الشخصية الحدية من أكثر الاضطرابات التى يجدها الاختصاصيون النفسيون بشكل يومي خاصة بين المراهقين.
وعلى الرغم من أن أسباب الإصابة بهذا الاضطراب غير معروفة ، إلا أن الأبحاث تشير إلى ارتباطه بخلل في كيمياء الدماغ، وهو ما يعنى أن الناقلات العصبية المسؤولة عن التحكم في المشاعر والمزاج تضطرب لسبب غير معروف علميا لكنها تتسبب في تقلبات مزاجية حادة.
وتكشف الدراسات العلمية فجوة بين الجنسين في معدل الإصابة بهذا الاضطراب فنحو 75 في المئة من المشخصين باضطراب الشخصية الحدية من النساء.
وتؤكد عبد الجليل أنه لا مبرر علميا واضحا لذلك، لكنها ترجح أن تكون التركيبة النفسية الخاصة بالفتيات هي ما تجعلهن أكثر حساسية من أقرانهم الذكور، وبالتالى تكون مشاعر الفتيات أسهل في تقلبها من الرجال، و هو ما يعنى أنهن أكثر عرضة للإصابة به.
وتقول بسمة البالغة من العمر 32 عاما إنها ظلت تعاني من أعراض اضطراب الشخصية الحدية لسنوات طويلة لكنها كانت تعتقد أن هذه طبيعة شخصيتها.
وتضيف "كان كل من حولي يقولون "إنني حساسة للغاية وعصبية وسريعة الغضب، ومثيرة للمشاكل"، لم أتخيل يوما أن هذه أعراض لاضطراب ما، حتى عام 2018 عندما كان كل شئ من حولي جيد للغاية لكني أشغر بالغضب والحزن وأفكر في إنهاء حياتي، وقتها فقط قررت الذهاب للطبيب النفسي".
التفاصيل نفسها تقريبا حكتها لي ميمونة وهي طالبة في قسم الكيمياء الحيوية في كلية العلوم، وتم تشخصيها باضطراب الشخصية الحدية قبل 3 أشهر .
تقول ميمونة أنها منذ الصغر تشعر بالوحدة، والرغم من كونها اجتماعية إلا أنها كانت دائما ما تشعر بالغربة وسط أهلها، وتضيف "كنت دائما أشعر أني غير مقبولة ولا أحد يحبني، وفاشلة، فأبدأ في إيذاء نفسي والتفكير في إنهاء حياتي بصور شتى".
وتضيف "كنت أبحث عن الطريقة التي لا تسبب ألم لأنهي بها حياتي، أعرف أنه أمر محرم لكني لم أكن استطيع السيطرة على الفكرة نفسها و دائما ما افكر في البدائل المتاحة".
توجهت ميمونة للأخصائية النفسية في الجامعة والتي أحالتها لطبيبة نفسية شخصتها باضطراب الشخصية الحدية قبل شهور لتبدأ رحلة العلاج بعد أن دخلت في حالة غضب وهياج شديد على خلفية خلاف عائلي بسيط مع أمها ، كما ذكرت لي.
وتضيف "تركت البيت وأنا في حالة غضب وبكاء شديد ورغبة في إنهاء حياتي، وقتها اتصلت بصديقتي التي نصحتني بزيارة الأخصائية النفسية في الجامعة، بزيارة الاخصائية بدأت رحلة العلاج التي أتحمس لها كثيرا".
هل هناك علاج؟
تقول شذى عبد الجليل إن طرق العلاج يمكن إجمالها في أسلوبين: العلاج المعرفي السلوكي الذى يركز على تعديل الأفكار والمشاعر وتعديل السلوك. والأسلوب الآخر هو التحليل النفسي الذي يركز على استهداف العقل الباطن، والذكريات المخزنة فيه والتي تؤدي إلى اضطراب السلوك.
وتضيف أنه يستغرق علاج اضطراب الشخصية الحدية تقريبا أكثر من 20 جلسة، على مدار 18 شهرا .
وتقول ميمونة إن أسرتها بدأت في احتوائها بعد تشخصيها بالاضطراب وتحسنت علاقتها بوالدتها وأخوتها كثيرا خاصة بعد أن أدركوا أن ما تمر به أمر ليس بيدها و لايمكنها التحكم فيه، "مزاجي المتأرجح ليس دلعا و قراراتي المتهورة بخصوص ترك الدراسة أو ترك العمل الجانبي ليست عدم تحديد و طفولة كما كانوا يقولون، الأمر خارج عن سيطرتي".
فكرت ميمونة في ترك دراستها دون أي أسباب لكنها تراجعت عن الفكرة لاحقا وعادت للانتظام في الدراسة، كما قررت ترك عملا جانبيا كانت تقوم به إلى جانب الدراسة بعد أن شعرت بالضيق والضغط الشديد.
وعن أهمية الاكتشاف المبكر لهذا الاضطراب، تقول الاختصاصية النفسية إن طريق العلاج طويل و يحتاج لكثير من الصبر لكن التشخيص المبكر يساعد كثيرا في اختصار الوقت والجهد خلال رحلة العلاج. و غالبا ما يلجأ المشخصون بالاضطراب للطبيب في مراحل متأخرة بسبب اعتقادهم أن الأعراض مجرد سمات شخصية عادية.
بحسب ميمونة "كان الأمر سيكون مختلفا، لو أن من حولي فهموا مبكرا معنى ما أقوله عن الشعور بالوحدة، لا أعني أنهم ليسوا موجودين، هم حولي لكني أشعر بالوحدة. أن يجعلوني أشعر بالأمان أكثر، أن يسمعوني أكثر".
بدأت ميمونة رحلة العلاج وتقول "أتمنى في نهاية هذه الرحلة أن أكون شخصا عاديا لا أعرف كيف يكون الشخص عاديا؟ أريد أن ارتاح من هذه الأفكار المتسارعة والمتناقضة أحيانا".
العلاج النفسي .. "مداواة بالحب والالتزام"
بسمة تعافت من اضطراب الشخصية الحدية بعد رحلة طويلة استمرت خمس سنوات، وتتذكر تلك الرحلة قائلة "كانت رحلة صعبة، أصعب ما فيها هو القبول، أن أقبل أني تعرضت لإساءة المعاملة في الطفولة لم يكن أمرا سهلا، أن أقبل أني مررت بصدمات صعبة من مقريبن مني كان منوطا بهم حمايتي كان أمرا موجعا ومعقدا".
كما كان الالتزام بحضور الجلسات أمرا صعبا للغاية، خصوصا في ظل التوقعات غير المنطقية بشأن مدة العلاج، فبحسب بسمة "كنت أتوقع أن يستمر العلاج لسنة واحدة على الأكثر وبعدها أشعر بالتحسن و أكف عن زياة الطبيب، لكن ما كان يحدث معي هو أني كنت أتحسن جدا ثم أعود وانتكس بشكل كبير، بسبب كلمة صغيرة أو تعليق من شخص لا أعرفه أو موقف يبدو للآخرين بسيط".
الإدراك كان أيضا واحدا من الصعوبات التى واجهتها بسمة في رحلة علاجها، "كلما فهمت حالتى و ما حدث معي، تألمت أكثر، ففي السنوات الثلاث ونصف الأولى من العلاج كنت أشعر بالألم في كل مرة أزور فيها الطبيب لمساعدتي في فهم حالتي، لكن نهاية الرحلة كانت تستحق كل هذا الألم"..
كما يضع الوصم الاجتماعي المحيط بالمرض النفسي المزيد من الأعباء على كاهل المرضي في رحلات علاجهم و أحيانا ما يعرقل كل الجهود المبذولة لمساعدتهم. و بحسب شذى عبد الجليل، الاختصاصية النفسية، تتجاوز نسب النجاح في علاج اضطراب الشخصية الحدية بحسب الدراسات والأبحاث نسبة الـ 50 % لكن في بعض الحالات لا تصل نسبة التحسن إلى 50 % لأسباب كثيرة تتعلق بالمشخص نفسه، و على رأسها الدعم العائلي، وهو ما يعتبر الأساس في نجاح علاج هذا الاضطراب إلى جانب العلاج النفسي. حسب بي بي سي
اضافةتعليق
التعليقات