بينت لنا آلاف السنين من التاريخ بشكل حاسم أن الصراع يولد المزيد من الصراع فما أن يندلع صراع، حتى يتخذ منحى تصاعدياً وما أن يصل إلى حد معين من الشدة حتى يتحول لينهي نفسه بنفسه.
العديد من الصراعات المكلفة التي شهدتها البشرية لم تكن على نفس هذا النمط الكوميدي وقد يسخر المشاهدون من التصعيد المجنون لمواقف الصراعات، ولكن المشاة العابرين يدفعون الثمن أيضاً في أغلب الأحوال، نمطاً يتبع من يراقب ويدرس الصراعات المستمرة، يجد أن تصعيد العداء دقيقاً محدداً حتى وإن لم تلحظ الأطراف المعنية بالصراع هذا النمط وعلى العكس من هذا، فإن الطرفين اللذين ينجحان في الحفاظ على علاقة ثنائية بناءة -سواء كان هذا على مستوى الأفراد، أو العائلات، أو العشائر، أو الشركات، أو الفصائل السياسية، أو الدول، ينهجان نقيض ذلك النهج التصعيدي، فيمكن للعلاقات الإيجابية أن تنمو وتقوى مع مرور الوقت، باتجاه تصاعدي حلزوني إيجابي معزز، في ذات الوقت الذي تتخذ فيه العلاقات السلبية منحى حلزونياً سلبياً هداماً ولكي نتحول في العموم من حالة الصراع إلى حالة التعاون، فإن الموقف يتطلب الارتقاء بهذا المنحى الحلزوني السلبي إلى منطقة محايدة، ومن ثم الارتقاء من جديد نحو منطقة إيجابية.
مسيرة تطور المنحنى الحلزوني للصراع
إذا انعدمت الثقة لأي سبب من الأسباب، أو كان ذلك نتيجة لميراث تاريخي لعلاقة ما، فإن الموقف يميل من بدايته نحو الصراع واستفزاز من جانب أحد الأطراف، أو سلسلة من الاستفزازات من جانب الطرفين، يمنح كل طرف دليلاً على وجود نوايا سيئة لدى الطرف الآخر وبعد عدد من الأعمال العدائية، يدخل الموقف إلى مرحلة التصعيد وعند هذه النقطة تنمحي أي رغبة لدى الطرفين في الحفاظ على العلاقة فيما بينهما ويجد الطرفان ضرورة لرد الفعل أو الثأر من اعتداء لا يغتفر وخلال هذا الانحدار نحو حالة صراع لا فكاك منها، تتغير كيميائية عقل كلا الطرفين فقد ألزم كلا الطرفين نفسه بإلحاق الأذى بخصمه ولن يكون أي منهما مستعداً بجدية لأن يدرس إمكانية السماح للطرف الآخر بتلقي شيء ذي قيمة ويتحول الموقف إلى موقف فوز - خسارة سرعان ما يتحول -للمفارقة- إلى موقف خسارة - خسارة فإذا امتدت علاقة الصراع هذه لفترة كافية لإحداث قدر كاف من الضرر فربما تتدنى في النهاية إلى مستوى رابع يتمثل في طريق مسدود بالكامل.
تجد هذا وبشكل كبير في العداوات القائمة على خلفيات دينية أو عرقية، وفي النزاعات طويلة الأمد حول الأراضي ففي حالة الصراع الأزلي بين العرب واليهود بالشرق الأوسط، تحول الصراع إلى جزء أساسي من الحياة؛ فعلى أساسه تتشكل البنى السياسية، والقوانين، والمناهج التعليمية، والسياسات الحكومية، والممارسات التجارية.
وقد يكون من المثالية المبالغ فيها أن نعتقد أن الصراع الذي يصل إلى المستوى الرابع المتمثل في الطريق المسدود قابل للحل بسهولة إلا أن الواقع يوضح لنا أن طول أمد بعض أكثر الصراعات دماراً في هذا العالم لم يمنع التوصل إلى نوع من الحلول الوسط في النهاية.
يجب أن يبدأ التقدم المتصاعد في علاقة ما وفق درجة معينة من درجات الثقة، أو التعاطف، حسب مصطلحات الذكاء الاجتماعي وقد تساعد الظروف على بداية إيجابية للعلاقة فقد يكون لدى بعض أطرافها معدل عال وكاف من الذكاء الاجتماعي للتخطيط لحالة تشجع الآخرين على التواصل، والتشارك في المصالح والأهداف، والأرضية المشتركة.
يمكن أن تنتقل العلاقة -مع القدر الكافي من التعاطف - إلى مستوى من التقبل والمعاملة بالمثل، حيث يسهم كل طرف بما يحقق مصلحة الطرف الآخر وقد تكون البداية مترددة نوعاً، إلا أنها تتدرج في ازدياد مع تبين المصالح، وعندها تنخرط الأطراف في نوع من التعاون المشترك.
مع بعض الحظ، والمهارة، ومع مرور الزمن، تكتسب العلاقة طابعاً طويل الأمد وتعود بفوائدها على كافة أطرافها، وتنتقل من مرحلة "سأعطيك (س) في مقابل أن تعطيني (ص)" التبادل والعطاء غير المشروط وعند هذه المرحلة، يبدأ أطراف العلاقة في النظر إليها على أنها علاقة مستمرة وهو الأمر الذي يشتمل على جانب التوقعات المهم: حيث نكون ارتبطنا بالطرف الآخر لفترة كافية تجعلنا نرى إمكانية وجود تواصل دائم وراسخ وإذا كانت الظروف مواتية، فإن أطراف العلاقة يصلون إلى مرحلة الاستمرارية وهي مرحلة يعتقد فيها جميع الأطراف بأن العلاقة تخدم احتياجاتهم ومصالحهم لدرجة تجعلها دائمة للأبد، وتكون لها هويتها الخاصة وعند هذه النقطة نرى الصورة المعاكسة تماماً لمرحلة الطريق المسدود وفي حين أننا نجد في مرحلة الطريق المسدود أن لا أحد من أطراف الصراع يجد الدافع لتحقيق ما فيه مصلحة الطرف الآخر، فإن مرحلة الاستمرارية تمثل نوعاً من التعاون، حيث يتفهم كل طرف قيمة مساعدة الآخرين في تلبية احتياجاتهم وتحقيق مصالحهم وأن هذا يعود عليه بالفائدة أيضاً.
ومن المفارقات أن مرحلة الطريق المسدود تعود بنوع من الفائدة على أطراف الصراع فهم عندها يشعرون وكأنهم أبطال يدافعون عن أرضهم الأم، ويجدون النصر في إلحاق الأذى بأعدائهم ولكنهم للأسف لا يتخيلون إمكانية وجود حالة مختلفة يمكن لجميع الأطراف فيها تحقيق الفائدة دون إلحاق الأذى ببعضهم البعض.
اضافةتعليق
التعليقات