متى ماتغذى الولد بالمفاهيم والمناقب الأخلاقية وتشبع بها صار في مأمن من تأثيرات رفاق السوء وهيمنتهم، ومتى ما تجاوزت العلاقة بين الآباء وأبنائهم من علاقة القمة بالقاعدة أو الفوق بالتحت إلى علاقة حميمية ليكون الأب صديقاً لولده وتكون الأم رفيق درب لولدها حينئذ لم يتمكن أي شخص خارج دائرة الأسرة مهما بلغ من قوة التأثير والشخصية من اختراق هذه العلاقة المتينة، ومتى ما حاول رفاق السوء بمحاولاتهم للتأثير السلبي تنبه الأبوان لخطورة العدو وتدخلا سريعاً لمساندة ودعم ابنهم وانقاذه من السقوط في شباك مؤامرات أصدقاء السوء، وفي أغلب التجارب الميدانية التي مررنا بها لحالات العقوق تبين لنا بأن السبب الرئيسي لتأثير أصدقاء السوء لاتكمن في قوة شخصية رفيق السوء بقدر ما تكمن في ضعف مناعة الولد من جهة وهشاشة الروابط الأسرية من جهة أخرى.
هذا كان ضعف المناعة، أما ثانياً: فهي حداثة الأساليب..
أساليب عديدة ومتطورة للإتصال دخلت أسرتنا لعوامل كثيرة منها هيمنة نظام العولمة الجديد الذي يعتمد بدرجة كبيرة في إنتشاره على هذه الأجهزة التي قطعت الأسلاك الشائكة التي كانت تحيط بالأسرة وعوامل إقتصادية وسياسية أخرى ولدت جميعاً ثقافة تدفع باتجاه التفكك الأسري وتؤسس لصراع بين الأجيال حل محل تكامل الأجيال الذي كان سائداً فيما مضى، وقد كان بالإمكان أن نقلب تأثير هذه المؤامرة على المتآمرين إذا كنا وأبنائنا على مستوى كافي من النضج والوعي بخطورة مكروب العولمة الذي يمكن تسخيره لخدمة الإنسان ورفد العلاقات الإنسانية، كيف وبيوتنا تحمل أرضية للتفكك وقابلية لعقوق الأبناء بسبب غفلة الآباء وغياب الدين في العقل.
أصبحنا وفي كل يد من أبناء الأسرة ومنذ السابعة من العمر أحدث أجهزة الاتصال عبر الانترنيت من دون أن نملك برامج لتعبئتها بالبرامج التربوية الهادفة والأفلام المربية وشبكة علاقات هادفة للشباب على قاعدة القيم والمبادئ المؤمنة، لتكون النتيجة نمطاً دخيلاً من العلاقات غير المتكافئة فيتصل أحمد هذا الطفل البريء من مصر بمارتن من الدانمارك الذي خدع ابليس بمكره وهو يبلغ من العمر الخامسة عشر فيتبادلان اللعب واللهو والحديث والصور والأفكار عبر الإنترنيت تخدع ذلك الطفل وتفقده برائته وعفته أمام غفلة الأبوين وغيابهم، ولذلك فإن هذه التقنية الحديثة صارت بمثابة أسلحة فتاكة بأيدي لاتملك النضج الكافي، ومعاول لهدم بقايا وآثار سور كان يحيط قديماً بالأسرة.
ثالثاً: الفراغ
من العوامل الأساسية للتوجيه التربوي هي زراعة المضادات الحيوية في شخصية النشء الجديد على قاعدة القناعة والتفهم الإنسيابي للعقيدة والفكر الإسلامي في العقل وتأسيس القواعد الصلبة للأخلاقيات والآداب والسلوكيات المحافظة يتبعها بناء سور يحدد الخطوط الحمراء التي تعطل العقل وتشل السلوك وتهزم الروح، هذه هي فلسفة التربية في الإسلام التي تفهم أبعادها ليقرأها بعض الآباء بأنها تقوم على الرقابة البوليسية الصارمة وفرض للوصاية والبعض الآخر يقرأها حرية بلا حدود وسلوك بلا محددات قيمية، وبسبب غياب البناءات التحتية للعقل والروح والسلوك سقط أولادنا في محيط كبير من الفراغ واللادرية، فراغ الفكر والعقيدة تدفعهم إلى التقاط كل فكرة ظاهرها جميل تبعده عن التآلف والتكاتف الأسري وتنشأ في نفسه ثقافة عدم تحمل المسؤولية تجاه مايجري حولنا من قضايا وأحداث، وأخطر مافي الفراغ العقيدي هو أنه ينشأ حالات خطيرة من الفراغ الحياتي، ومن هنا يقول عالم النفس وليم جيمس إذا قسنا أنفسنا إلى ما يجب أن نكون عليه لاتضح لنا أننا أنصاف أحياء. فإننا لا نستخدم إلا جانباً يسيراً في حدود ضيقة يصنعها داخل حدوده الحقيقية. إنه يمتلك قوى كثيرة مختلفة.
ولكنه عادة لايفطن لها، أو يخفق في استخدامها، تقول دروثي كارنيجي: وكثيرون هم الناجحون الذين بلغوا ذروة النجاح معتمدين على ما جنوه من علم ومعرفة خلال أوقات فراغهم، كان تشارلس فروست إسكافيا ولكنه استطاع أن يصبح من المبرزين في الرياضيات بتخصيص ساعة واحدة من يومه للدراسة، وكان جون هتنر نجاراً ثم شرع يدرس التشريح المقارن في أوقات فراغه، مخصصاً لنومه أربع ساعات وحسب من الليل، حتى أصبح حجة في هذا الميدان، واستطاع سير جون لايوك أن يقتطع من يومه المزدحم بالعمل بوصفه مديراً لأحد المصارف_ ساعات يقضيها في دراسة التاريخ حتى أصبح علماً بين المؤرخين، وتعلم جورج ستيفنسون الحساب في أوقات نوباته الليلية بصفته مهندساً، ووسعه مستعيناً بهذا العلم أن يخترع القاطرة، ودرس "جيمس واط" الكيمياء والرياضة في أثناء اشتغاله بالتجارة فأمكنه أن يخترع المحرك البخاري.
عندما لا نُعبئ النفس بالايمان والتقى والحب سوف تملئها الأجواء وأصدقاء السوء بما لا تحمد عقباها.
اضافةتعليق
التعليقات