ليلة الجمعة، ليلة السابع عشر من شهر ربيع الأول، في تلك الليلة كان قلب الكون يخفق جذلا، وللسماء حكاية، وعلى الأرض حدث جليل!
من خلف الشعاب الجرداء كانت الكعبة الغرّاء مخنوقة بأنفاس الشرك، والبيت الحرام يترقّب بشغف وليده الميمون !
كانت النجوم تضطرب في أفلاكها، والشياطين تُرمى بالشُهُب من كل جانب؛ لاتدري إلى أين تلجأ وبمن تلوذ وقد حُجبت عن السماء، ومن قبل كان لها مقاعد تسترق منها السمع!
أي حدث عظيم يجتاح العالم تلك الليلة؟ فها هي نيران فارس خمدت ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وارتجّ أيوان كسرى، وسقطت منه أربعة عشر شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة، وسطع نورٌ من قبل الحجاز وانتشر حتى بلغ المشرق.
إرهاصات تتوالى! فلم يبق عرش لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوساً، والملك أخرساً لا يتكلم، وبطل سحر السحرة، وباء علمُ الكهنة بالخذلان!
شيبة الحمد وسيد البطحاء في فِناء البيت الذي اكتظ بملائكة الرحمن، يطوف بالكعبة سبعا، يغمره انتظار عذب، يرمق ارتعاش النجوم التي تحاكي ارتعاش قلبه، ذلك القلب الذي ينازعه ألم وأمل، ألم لفقده الابن الحبيب عبد الله، وأمل لمولد حفيد هو صفوة الله وخيرته من خلقه .
وفي الركن القصيّ من بيت الأمجاد، كان لزهرة قريش رواية أخرى ملؤها البشائر، فشمعة البيت الهاشمي لم يزلزل فقدُ الحبيبِ شعور السكينة الكامن في أعماقها، تنتظر بصبر أحلى من الشهد رؤية يتيمها وقد كستها أنواره حللا، تروي أسرار الليلة المطرّزة بالعطر، المحفوفة بالمعجزات: "لما حملت برسول الله (صلى الله عليه وإله) لم أشعر بالحمل، ولم يصبني ما يصيب النساء من ثقل الحمل، ورأيت في نومي كأن آتياً أتاني وقال لي: قد حملتِ بخير الأنام، فلما حان وقتُ الولادة خفّ ذلك علي حتى وضعته (صلى الله عليه وآله) وهو يتّقي الأرض بيديه، وسمعتُ قائلاً يقول: وضعتِ خيرَ البشر، فعوّذيه بالواحد الصمد، من شر كل باغ وحاسد ".
ويكمل لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) ذلك المشهد الإعجازي في رواية له: "لما وُلِد رسول الله صلى الله عليه وآله أُلقيَت الأصنام في الكعبة على وجوهها، فلما أمسى سُمع صيحة من السماء: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا".
وأضاء نوره الدنيا، وضحك كلُّ حجر ومدر وشجر، وسبّح كلُّ شئ في السماوات والأرض لله عز وجل، وانهزم الشيطان وهو يقول: "خير الأمم، وخير الخلق، وأكرم العبيد، وأعظم العالم محمد صلى الله عليه وآله" .
مع انبلاج الفجر، انهزم الظلام، بمولود هو مكمن النور والبهاء، مهد اليُمن ومِهاد الأماني، وابتسامة جذلى أضاءت أم القرى، وتهلل لها وجه سيدها الحزين !
هو جوهرة الوجود، وسرّ قول الرحمن لملائكة الفردوس الأعلى: اسجدوا !.
اضافةتعليق
التعليقات