انطلقت الكرة وتطايرت حبات البلور الصغيرة وتشاجرنا كالعادة وكل منا أدار وجهه عن الآخر وتخاصمنا، ارتفعت الأصابع نحو الشفاه وتبللت ثم رميناها وهكذا يتم توقيع فرمان الخصام، كان كل نهار يمر علينا لابد أن نتشاجر فيه ولكن تهدأ النفوس في المساء ونجتمع بجانب بعض وتتعانق الأصابع حينما تقرر خيوط الشمس أن تغيب عن عيوننا..
ثم بعدها ننطلق نحو منازلنا وندخل دون طرق الأبواب ليفتح أحد لنا لأنه حتما ماكان هناك باب يغلق على طول النهار وحتى منتصف الليل، وتعاد وتيرة الأحداث كل يوم إلى أن تخاصمنا في ذلك اليوم ورمينا فرمان الخصام لكن أحدنا انشغل ونسي أن نتصالح واكتفينا بالصمت فقررت أن أتنازل غدا وأصالحه ولكن ليت الأمس لم يكن..
دوت في أذني هذه الليلة أصوات اطلاقات نارية وأحكمت الأبواب في اغلاقها هرعت نحو حضن أمي وكأنها الوطن الوحيد الآمن حتى طل الصباح وذهب الأمس وليته انتظر قليلا ولم يسرق أحلامنا الصغيرة أو على الأقل كان ليسرق أحلامنا ويتركنا ولكن هذه المرة قرر الأمس أن يأخذ صديقي الصغير وينحره على شرفة الحزن وتنعيه العصافير أنشودة للبراءة المقتولة وانعدمت الألوان من ذلك اليوم وما عاد للخصام طعم ولا للفرمان هيبة وتظللت الطفولة باللون الرمادي. حبات البلور لم تعد ممتعة والأبواب لاتفتح إلا حين تطرق هذا إن طرقت وفي أول المساء تغلق بإحكام مؤلم وأيضا الأقدام لم تعد تلمس الأتربة كالسابق، عندها أدركت أن طفولتنا الصارخة
أصبحت صامتة لدرجة أننا لم نعد ننظر للساعة ونترقبها لنشاهد هل سينقذ عدنان لينا أو ماهي مغامرة السندباد هذه المرة وهل ستعود ياسمينا أو على الأقل عنصر التشويق حينما نحقق مع كونان أو متى سيعود نيلز لحجمه الحقيقي..
كانت كل همومنا تكمن في أفلام الكرتون حتى تحولت إلى واقع وبت أرى أمي بات مان المكافح لأجل انقاذنا من تلوث هذه الحياة وبيكاتشو لم يعد عشقنا الأصفر ولاعادت كرة ماجد تلهمنا.
كثيرا ما تمنينا أن نعيد عقارب الساعة إلى الوراء لأيام أو لساعات وربما لمواقف لكن أصعبها حينما نتمنى أن نعيدها لحوادث فصلتنا لعالمين لنصفين كميت ينتظر زيارة أهله لكن ما باليد حيلة، كيف سنخفي رائحة البارود أو كيف نقنع الأطفال أن السلاح والقتال ليس شيء عادي وعليهم الفزع والخوف منه بعدما أصبح لعبتهم المفضلة..
كيف علينا أن نقنعهم أن الشتيمة ليست متعة ولا الصراخ والتكبر شخصية، كيف نقنعهم أن الحياة بسيطة كالورقة والقلم بعدما أصبح الإصبع هو قلم لشاشة خرساء لاتجيد سوى النسخ والقص واللصق حتى أصبح الصديق المفضل للطفل هو عالمه الالكتروني الذي يلهون معه طوال ساعات ويتعلقون به حتى يصبح لعبتهم المفضلة لدرجة أنه أصبح رفيقهم الدائم حتى لربما بتنا نشاهده مع صور العائلة، والرسائل أصبحت مملة جدا منذ أن باتت تكتب على الشاشة بدل الورق..
حتى النجاح لم يعد كما كان منذ سنين خلت، أتذكر أنني كنت أركض نحو جدي حينما كنت آخذ وثيقة نجاحي من صف إلى صف في مرحلتي الابتدائية يومها كان يهنأني الجميع ويكافئونني حتى كاد النجاح أن يصبح عيدي الثالث الذي أرتدي فيه أجمل الثياب ونأخذ الحلوى فيه والمكافئات أما اليوم أعود بنتيجتي نحو الفراش لأكمل نومي الذي قطعه المنبه المزعج وربما يسألني أحدهم عنها أو لا أو عندما أود اختصار الأمر أرمي صورة للنتيجة على أحد مواقع التواصل وهكذا يتم اخبار الجميع عنها دون تعب فلم يعد هناك شيء ممتع فيها.
هل تعي أن تصل لوجهتك لكنها ليست وجهتك؟ أنت راض لكنك لاتقفز فرحا! هكذا هي الطفولة اليوم عندما يداعبنا الحنين إلى الماضي البعيد عن طفولة بريئة وأيام سعيدة، حينها تعرف أن هناك أيام لن ترجع وسنين قد مضت وتتذكر تلك السنين وتشعر برغبة قوية للعودة لها بدون قيود ولا هموم، نعيش على براءة وطهر القلوب..
أطفال في زمن بعيد، والآن أصبحنا كومة من الهموم والأوهام الزائفة، نعيش في حياة واحدة، مختلفين في تلك الظروف ضائعين لا نعرف أين ذلك الحنين.
لن تعود تلك الأيام لكن على الأقل لاتقاوموا الأطفال داخلكم وتسيرون كرجل آلي لايجيد شيء سوى الروتين اليومي، ابتسموا وتصالحوا قبل أن يمضي اليوم واقبلوا كل لحظاتكم الجميلة لربما لن تتكرر..
ذكر في قصيدة للشاعر أحمد الصافي النجمي:
بريءٌ، وأفعلُ ما أشــتهي
ملاك، وأجهلُ معنى الذنوبِ
إلى الآن ما سجَّل الكاتبانِ
عليَّ خطى مخطئٍ أو مُصيبِ
وأمَّا كبــــرتُ ولاحَ الحجى
يهيئُ لي مُزعجـــاتِ الكُروبِ
هربتُ من العقلِ فعلَ الجبانِ
فما منقذٌ ليَ غيـــرَ الهروبِ
وعاودتُ مُقتبساً روحَ طفـلٍ
وعــدتُ لأبدأَ أولى الدُّروبِ.
اضافةتعليق
التعليقات