تحت ظل شجرة ذات أغصان كثيفة تعيش وردتان من أجمل ما يكون. لونهما الأحمر العقيقي یسحر عیون الناظر إليها وبريق قطرات الندى تتلألأ على أوراقها الزبرجدية، مما يضفي عليها جمالاً ورونقاً وبريقاً. الأشجار الكثيفة تسوّرها من كل حدب وصوب، وخيوط أشعة الشمس الذهبية تجد طريقها إلى الأرض من خلال أفنان الأشجار المتراكمة. إحدى الوردتين تغمرها السعادة في هذه الأجواء الجميلة، لكن ملامح الحزن والاكتئاب تبدو على الأخرى.
التفتت الوردة الأولى إلى الثانية قائلة: لم لا تستأنسين بجمال الطبيعة وتتمتعين بكل هذه المشاعر الجميلة التي تحيط بك؟ ها نحن في أروع فصول الحياة، الشمس تبتسم بإشراقها، الطيور تغرد والنسيم يهب فلتلتذي بسحر الحياة.
لكن الوردة الحزينة لم تكترث بمقال صديقتها، بل خاطبتها معاتبة: أنت لم تفهمي معنى الحياة، إذ أن تفكيرك انحصر في الإطار الضيق الذي كبرتِ وترعرعتِ عليه، جمال الطبيعة أسرك، أصبحتِ رهينة التراب وأسيرة المكان ومع ذلك ترين نفسك سعيدة وتتمتعين بالحياة! عليك أن تفتحي عيونك للحظات على العالم الذي يحيط بك: فها هي الطيور تتراقص في الفضاء وتجول هنا وهناك وتتمتع برؤية القريب والبعيد، أما نحن فأسرى ورهائن لهذه الجذور التي تسمِّرنا في الأرض وتمنعنا عن الحركة بحرية.
ثم تنهدت في غير ارتياح وقالت بصوت شجي: كم أتمنى أن أحدهم، أعني البشر، يمر من هنا، ويقتطفني ويجول بي في البلدان! آه! ليتني أنفلت من هذه القيود التي قتلت نفسي وحريتي، ليتني أسير في هذا الكون الواسع واتمتع برؤية العالم.
استنكرت الوردة الثانية مقالتها، وخاطبتها قائلة: لكنك جهلت قيمة هذه الجذور، إنها هي الخيوط التي تربطك بالحياة وتمنع عنك الذبول والموت. حياتك، جمالك، رائحتك الزكيّة التي تدهش المارّة، كلها مستمدّة من جذور تحسبينها قيودا مؤلمة.
لكنّ شوقها للتحرر كان قد استولى على مشاعرها وشغف الانطلاق كان قد هيمن على إدراكها، فرفضت كلامها من دون تأمل وظلت تدعو الله ليل نهار كي يجنيها جانٌّ يجول (يطوف) بها في البلدان فتذوق حلاوة الحرية وتستريح من عبء الأسر.
وذات يوم مر بهما مارٌّ، أدهشه جمال الوردة المشتكية، اشتنشقها، ثم قطفها ومضى، وبينما هو ماض سمعت الوردة الثانية صوتها تصرخ من شدة الفرح قائلة: ها قد تحققت أمنيتي وتحررت من تلك الحياة الكئيبة، وبقيتي أنتِ المتحجرة رهن التراب أسيرة حبيسة.
ظل الرجل متمسكا بالوردة وهو يجول في البستان، وظلت هي تتمتع بجمال الطبيعة وتضحك لتمتعها بالحياة. لكن لم يطل بها الزمان وإذا بها تشعر بالجوع ويؤذيها الظمأ، لكن من أين بها وقد انفلتت جذورها من منبع رزقها؟ فذبلت شيئا فشيئا وفقدت نضارتها وجمالها، فرمى بها قاطفها تاركاٌ إياها حيث اقتطفها.
نظرت الوردة الجميلة بأسف لصديقتها التي طالما تمنت هكذا عيش. تذكرت نصحها وحديثها وخاطبتها قائلة: كم أنذرتك؟ وكم وعظتك؟ وكم نصحتك؟ قلت لك غير مرة بأن ما ترمين إليه يقضى على حياتك، لكنك لم تكترثي! نبّهتك أن هذه القيود إنما هي خيوط الحياة، لكنك أبيتي وأعرضتي وخلتِها (تخيّلتِها) قيودا وأسرا وأغلالا.
وهذا مثل يحكي لنا واقع الحياة: فالكثير منا يرى أحكام الدين قيودا تأسر به الأرض وتمنعه أن يذهب أينما شاء، ويعمل أيّما شاء وكيفما يحلو له؛ لكنًها في الحقيقة خيوط تربط المجتمع بنبع الحياة وتجعله يعيش في ظل الحرية والأمان.
اضافةتعليق
التعليقات