دخلت تقترب شيئاً فشيئاً فتاة عشرينية تحمل بين يديها أوراقها، كانت تُحضر لمادة الامتحان، عيناها ذابلتان من السهر أو قد يكون ذلك بسبب أنين المرضى الراقدين في المشفى، بدأت تقترب مني رويداً رويداً فدنت مني وقالت: من أنت؟ اه قصدي ماذا تقربين لهذه المريضة؟ فقلت لها: انها والدتي.
فقالت: بتعجب!! ياالله يبدو عليك الكبر، اكيد بسبب مرض والدتك، هل هي مريضة بسرطان الرئة؟ أعانك الله، ثم تبسمت وقالت: هذا كله لك فيه أجر وثواب، وأن المؤمن مُبتلى وهي ترسم على شفتيها ابتسامة عريضة.
ثم قالت: أنا طالبة في كلية الطب وعندي بحث واذا سمحتي لي أريد ان اتكلم مع والدتك عن مرضها، إذا كانت تستطيع .
فقالت لها والدتي: اقتربي يابنيتي ماذا تريدين أن تعرفي؟ .
فقالت: كل شيء عن مرضك وما عانيتيه، فبدأت امي تروي لها قصتها مع مرض السرطان .
أخرجت الطالبة قلمها من جيب الصدرية وبدأت تكتب وأمي تملي لها.
قالت والدتي: وكانت بداية مرضي عندما بدأت أسعل وخرج بعض الدم من فمي، فقرر الطبيب عندئذ أن يجري لي فحصاً .
ولم أتوقع اني أُصبت بهذا المرض، فكانت الصدمة الاولى لي عندما عرفت أني مصابة بالسرطان وبدأ اولادي يقنعونني بالعلاج الكيمياوي، لأنه لا علاج غيره ليحد من انتشار المرض. كنت رافضة في بادئ الأمر ولكن استسلمت في آخره، وكان علي في بادىء الأمر أن آخذ جُرعة من الاشعاع قبل علاج الكيمياوي، وكان جهاز الاشعاع فقط في محافظة بغداد، ورغم معاناة السفر لأننا من محافظات الجنوب، وصلنا الى المستشفى وإذا بي أرى تلك الشباب والاطفال والنساء كبارا وصغاراً يفترشون الارض ليأخذوا دورهم في العلاج، فأخذت دموعي تنهمر على ما وصل حالنا إليه نحن العراقيون بلاد الخير بلدنا، هذا ماقلته في نفسي، ثم قدمت أوراقي للطبيب وإذا به يقول أنت لاتحتاجين الاشعاع لقد شُفيتي، لم تتمالكني الفرحة وأخذت أجهش بالبكاء وشكرت الله على هذه النعمة، ثم عُدت الى منزلي، ولكن كنت في شك من كلام ذلك الطبيب، مع العلم إن مرض السرطان سمي بالخبيث لأن الخلايا تنقسم بسرعة وتنتشر
فيجب به أن تنحسب كل ثانية من عمر المرض، وبعد فترة بالأحرى بعد شهر ذهبت لطبيب آخر وقصصت عليه ماقال لي الطبيب السابق عن ان لاحاجة لي بالاشعاع واذا به يضرب بالقلم على طاولته!!
ويصرخ هذا مستحيل يكون انسان، كيف يقول لكِ لاتحتاجين الاشعاع، أما لحياة الإنسان قيمة لديه!!
ثم قال لي: حاولي أن تجمعي ما لديك من مال وأنا ايضاً سأساعدك عن طريق مؤسسة خيرية وسافري لتتلقي العلاج.
والحمد لله تمكنت من جمع المبلغ الكبير، ثم سافرت إلى بلد آخر وبدأت بأخذ العلاج وكنت كُلي أمل أن لايعود إلي المرض من جديد، ولكن شاء الله أن يعود وبشكل أقوى من ذي قبل، وها أنا أعاني من انتشار المرض حتى اني أشعر بأن أولادي أصابهم الملل مني.
لكن أحبائي لم يقولوا هذا لي، لكني متخوفة فيوم بعد يوم تزداد حالتي سوءاً.
فقبلتها وقلت لها: حفظك الله لنا، لا تقولي هذا الكلام، انت فقط من تشعرين هكذا .
ثم قالت لها الطالبة لاتقولي هكذا لنا رب اسمه الكريم.
فتبسمت وبدأت تكمل - ولكن كُلي يقين ان تأخيري عن أخذ علاج الاشعاع هو السبب في انتشار المرض، ثم قالت لها: اكتبي كي تعرف الناس إن الاهمال قد يتسبب يوماً بموت انسان ولأن أخذ جرعة كل احدى وعشرون يوماً متعب، وكلما يأتي موعد الجرعة وأذهب الى مستشفى الاورام أموت الف مرة في ذلك اليوم بسبب ماتشاهده عيني من آلام المرضى من جهة وعدم توفر العلاج من جهة اخرى، بنيتي انظري الى تلك الطفلة لقد أكل كبدها، وهذه المرأة انه في أمعائها وهذه وهذه انه هنا في أحشائي، واراقب سرير تلو السرير يفرغ من صاحبه وعويل احبائه .
عزيزتي أنا لا أخاف على نفسي ولكن أخاف على عيالي من ألم الفراق .
ثم بكت لوهلة ومسحت عينيها واصطنعت البسمة على شفاهها مرة اخرى كي لا اتألم عليها.
فقالت الطالبة خالتي اذكري الله كل يوم يتطور الزمن وسيأتي علاج جديد خالتي فعلاً هذا المرض انتشر كثيراً في الآونة الأخيرة وخاصة عندنا في العراق بسبب الحروب والحالة النفسية الصعبة التي يعيشها المواطن، ولكن الله معنا وأخذت تبكي، بشهقة وغصة وهي تقول لقد أخذ هذا المرض اللعين خطيبي وحبيبي مني قبل شهور!
ثم تركتنا وذهبت ..
وأخذت امي تبكي وتقول يالشبابنا انهم مظلومين .
فقلت: في نفسي لم يسلم من هذا المرض لا الصغير ولاالكبير.
وقبل انتهاء دوام المشفى جاءت الطالبة وهي تحمل معها باقة من ورود حمراء وبدأت بتوزيعها على كل الأسرّة، لتُضيف ابتسامة على شفاه كل المرضى الذين يعيشون لحظة ألم واحتضار.
وهي تقول الله لنا لاتفكروا في الموت، فكلنا على هذا الطريق، ولكن فكروا في كيفية تخفيف آلامكم
وقد قال الله سبحانه وتعالى "وإذا مرضت فهو يشفين" .
جميلة تلك الورود التي نثرتها على أسرّة المرضى، أرادت أن تبعث الامل في نفوس المرضى بالرغم
من الألم الذي كان يلازمها، هذه هي الاخلاق الانسانية الطبية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما بعُثت لأُتمم مكارم الاخلاق"
اضافةتعليق
التعليقات