لو أردنا معرفة مقدار التغيير الذي يحدثه أي مصلح بشريّ في مجتمعه؛ فعلينا أن نأخذ ثلاثة أمور بنظر الاعتبار: حال ذلك المجتمع قبل عملية التغيير، وحاله بعدها، والمدة التي تستغرقها عملية التغيير.
وإذا طبّقنا هذه الرؤية على التغيير الذي أحدثه الإسلام متمثّلا بالدور العظيم الذي قام به الرسول صلى الله عليه وآله، لعرفنا - وبكل وضوح - عبقرية الرسول، ومقدار ما تمتّعت به شخصيته الفذّة من طاقات ومواهب، وصفات رفيعة!.
فلقد كان مجتمع العرب قبل الإسلام مجتمعا جاهليا بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات ومعان؛ حيث كان العرب أميّين لا يحسن القراءة والكتابة منهم إلا عدد قليل جداً، وقد وصفهم القرآن بقوله {هُوَ ٱلَّذِی بَعَثَ فِي ٱلأميين رَسُولا مِّنۡهُم}.
بالإضافة إلى الجهل العلمي السائد فقد كان العرب يتّصفون بالجهل الإجتماعي، والأمية الحضارية في السلوك وأسلوب العيش؛ حيث كانت العصبية، والغضب، والتفاخر الزائف الحالة السائدة في ذلك المجتمع، وكانو مفكّكين سياسيا، منقسمين عشائريا، تقودهم حميّة الجاهلية والصراع الذي لا يتوقف ولا يهدأ!.
فإذا بنور الرسول صلى الله عليه وآله يشرق على تلك البقاع السادرة في الظلام لينير جوانبها، ويقود عملية تغيير جذرية حوّلت ذلك المجتمع الأميّ الجاهل المشتّت إلى أمة موحّدة رائدة وصفها القرآن بقوله: {كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ}؛ أمة حملت راية الإسلام، ومشعل الرسالة الخالدة إلى بقاع العالم كافّة، كل ذلك في فترة قياسية لم يحصل مثيلها في تأريخ الرسل والرسالات على امتداد البشرية!.
ومن أهم ما تميّزت به شخصية الرسول صلى الله عليه وآله هو اللين والرقّة، والرحمة بالناس والرفق بهم، وخلوها من الفظاظة في القول والخشونة في التصرف في الوقت الذي كان يتعامل مع أغلظ الشعوب، وأكثرها شدة وقسوة؛ فاستطاع بذلك اللين والرفق أن يطوّع تلك النفوس، ويروّضها ويحوّلها إلى نفوس تنطوي على الرحمة والتضحية والإيثار الذي تجلّى في أنبل الصور، وأكثرها إشراقا وقداسة!.
ومن ميزات شخصية الرسول صلى الله عليه وآله المهمة أيضا اتباعه أسلوب المشورة، وسماحه للآخرين بإبداء آرائهم، والاستماع إليها والأخذ بها في كثير من المواقف؛ ومن الطبيعي أن المشورة لا تشمل الأحكام الإلهية والتقنين بل تتعلق بالموضوعات الخارجية وبطريقة التطبيق العملي للقوانين فقط.
فبالرغم من كون الرسول صلى الله عليه وآله لا ينطق عن الهوى، ومسدّد بالوحيّ قد أغناه الله به عن رأي الآخربن، وبالرغم من امتلاكه قدرة فكرية عظيمة تؤهله لتسيير الأمور دون الحاجة إلى مشورة أحد، إلا إنه صلى الله عليه وآله كان يتّبع ذلك الأسلوب الحضاري، قولا وفعلا؛ منها قوله:
(ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي).
وكان يسعى صلى الله عليه وآله لبثّ ثقافة الاستماع للآخر، وعدم تجاهله أو إلغائه، ثقافة احترام وجهات النظر الأخرى وإن كانت معارضة لوجهة نظره، بما يحقق صياغة للمجتمع، ونمو لشخصيته، بعكس السلوك المستبّد الذي لا ينفّر الآخرين فحسب، بل ويلغي شخصياتهم، ويعوّدهم على الاتّكال الكلي على شخصية القائد في صغير الأمور وكبيرها، وسيؤدي بالتالي إلى القضاء على شخصية المجتمع، وإيقاف حركته الفكرية، وموت المواهب والاستعدادت، وهدر الطاقات.
ولم يكن الرسول صلى الله عليه وآله يستمع لوجهات نظر الآخرين فقط بل كان يأخذ بها وإن كانت تخالف رأيه كما حدث في معركة أحد، فقد كان رأيه صلى الله عليه وآله التحصن في المدينة وعدم الخروج منها ومقاتلة قريش الغازية من الداخل، بينما كان رأي الأكثرية الخروج من المدينة ومقاتلة العدو خارجها؛ فاحترم الرأي المخالف وأخذ به، رغم ما انتهى إليه ذلك الرأي من نتائج مأساوية.
إنَّ مشاورة الرسول للمسلمين وأخذ آرائهم بنظر الاعتبار لا يمنع أن يكون القرار الحاسم والأخير بيده {وَشَاوِرۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ}.
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله أن يربينا، ويكون قدوتنا في هذا الجانب السلوكي المهم سواء كنا أشخاصا عاديين، أو آباء أو مسؤولين؛ فلا نستبدّ بآرائنا، ولا يأخذنا الزهو بأفكارنا، والاعتداد بأنفسنا؛ فنشعر باستغنائنا عن رأي الآخرين وربما تسفيهنا أو إزدرائنا لتلك الآراء!.
نعم بهذه الشخصية الفريدة، بهذه الروح الكريمة وما تنطوي عليه من حب ورحمة ووداعة، بحرصه على الآخرين، برحابة صدره، وسعة أفقه؛ استطاع عبقري الإنسانية وخاتم الرسل أن يحي ذلك المجتمع الميّت ويبثّ فيه روحا جديدة خلّاقة، وأن يخرجه من الظلمات إلى النور..
اضافةتعليق
التعليقات