من المعلوم ان هناك الكثير في السنة من المناسبات وتُعَتبرها الايام وتصبح لتلك المناسبة يوم في السنة. ففي الحادي عشر من تموز/ يوليو عام 1987م أظهرت إحصاءات الأمم المتحدة إنّ عدد سكان العالم وصل إلى خمسة مليارات نسمة، وكان هذا هو سبب اختيار ذلك اليوم ليكون يوما عالميا للسكان، ومع وصول العدد إلى ستة مليارات نسمة عام 1999م، أصبح سكان العالم قضية تثار حولها ضجّة كبيرة، تجلّت خاصة بانعقاد أول مؤتمر دولي عملاق عام 1994م في القاهرة ،وبعد انعقاد هذا المؤتمر لم يلاق حديث السكان أي ضجة كبيرة ومثار جدل، فما الذي أضعف إذن تلك الضجّة الكبرى التي كنّا نرصدها خلال النصف الأوّل من التسعينات الميلادية، وأضعف الحملة الواسعة النطاق للحيلولة دون زيادة البشرية، والحديث المتكرّر عن أرقام مثيرة للرعب، عن مولود جديد كل ثلاث ثوان و ربع مليون إنسان يحتاجون إلى طعام وغذاء وماء ودواء وكساء ومسكن، يولدون يوميا في أنحاء الأرض، وعلى وجه التحديد في الجنوب من الكرة الأرضية، ففي الشمال يتناقص عدد سكان معظم الدول بدلا من أن يتزايد.
صحيح أنّ نسبة التسارع في زيادة تعداد البشرية قد انخفضت، ولكن جزئيا فقط، وما تزال هذه الزيادة في حدود ثمانين مليون نسمة سنويا، وربّما تبقى على ذلك في المستقبل المنظور. ولم يكن هذا الانخفاض نتيجة تغيير يستحق الذكر في واقع الحياة البشرية وواقع الأسرة في المجتمعات المختلفة. أنّ وسطي عدد الأطفال في الأسرة في البلدان النامية قد انخفض، أو أنّ الإقبال على الإنجاب في سنّ مبكرة قد اضمحلّ، إلاّ في عدد محدود من بلدان العالم،
يبدو أنّ انخفاض حدّة مطالبة الدول الصناعية بالحدّ من الإنجاب في الجنوب يعود لعدّة أسباب، منها:
1. في مؤتمر السكان العالمي عام 1994م في القاهرة، كان حجم النفقات التي قدّرها المؤتمر لتمويل سلسلة من المشاريع لتنفيذ هدف الحدّ من الإنجاب، تعادل ستة عشر مليارا وخمسمائة مليون دولار، وتعهّدت الدول الصناعية بثلث المبلغ والدول النامية بتوفير الثلثين، وذلك قبل حلول عام 2000م، ولكن صندوق السكان العالمي التابع للأمم المتحدة يقول: إنّ الدول الصناعية تراجعت عن تعهّداتها في السنوات الخمس التالية لقمّة القاهرة بشكل ملحوظ، فسدّدت مليارين بدلا من 7 مليارات دولار، وبالمقابل قامت الدول النامية الأفقر بتأمين القسط الأعظم ممّا تعهّدت به، وهو ما وصل خلال السنوات الخمس الأولى بعد قمة القاهرة إلى 7 مليارات من أصل تسعة مليارات وخمسمائة مليون دولار
ّ2. من الإنجاب، ودعم أوضاع المرأة بالمفهوم الغربي للكلمة، والأخذ بما تنادي به الدول الغربية تحت عنوان القيم ومعظمها في ميدان الأخلاق وتفكيك عرى الأسرة والإباحية في العلاقة بين الجنسين، وهذا ما يجري تنفيذه بهدوء، بينما لم تحمل مقرّرات المؤتمر الدولي صفة الإلزام.
3. ومن أسباب تجنّب الضجيج أيضا أنّ كلّ حديث عن سكان العالم يمكن أن يقترن بمزيد من الشكوى، من جانب الدول النامية، ومن جانب المنظمات العالمية المستقلة، ضدّ سياسات البلدان الصناعية التي أدّت إلى ترسيخ الخلل القائم بين الشمال والجنوب على كلّ صعيد، بدلا من تخفيفه، ومضاعفة المخاطر المستقبلية الإضافية التي تنتظر الدول الأفقر من سواها.
وتقول التقديرات إنّ عدد البشرية يمكن أن يزيد إلى ثلاثة أضعافه خلال خمسين عاما، أمّا إذا أمكن الهبوط بوسطي عدد أطفال الأسرة الواحدة إلى طفلين فقط، فستتباطأ هذه الزيادة، وقد يصل عدد سكان العام آنذاك إلى ثمانية مليارات نسمة عام 2025 ما من التهويل من شأن الزيادة السكانية في الدول النامية ولا سيما الإسلامية، عندما يقال (إن فيها 90 في المائة) من أصل 80 مليون نسمة يزيدون كل عام، هذا صحيح، ولكن يسكن تلك الدول حاليا 85 في المائة من سكان العالم، أي أنّ 85 في المائة من البشرية ينجبون 90 في المائة من المواليد، فما الذي يبقى من فارق ضخم عندما تكون المقارنة متكاملة العناصر؟
إنّ هذه الزيادة الاعتيادية الطبيعية، ولا نقول: المرتفعة أو الكبيرة أو الفاحشة، في البلدان النامية، لا سيّما الإسلامية تعود إلى نسبة الأطفال في الأسر، وتصل وسطيا إلى 4 أطفال في الأسرة الواحدة، ولكنّ الحملة العالمية الغربية التوجيه، للحدّ من زيادة سكان الأرض، لم تتركّز على ما يسمّى بتنظيم الأسرة. فحسب، بل كانت تدعو إلى إباحية العلاقات بين الجنسين، في سنّ مبكّرة، وهو ما يكشف عن تناقض كبير، فمثل هذه الإباحية من شـأنها أن تزيد حالات الحمل غير الشرعي كما هو الحال في الغرب، فهي إذن دعوة إلى الإباحية والإجهاض، فأين هو الغرض الاقتصادي من الحملة الدولية في حدود ما يربط الأمر بمستقبل الاحتياجات المعيشية للإنسان؟.. أليس الأصحّ أنّ الغرض أصبح غرض عولمة الفساد والإفساد فحسب؟
الواقع هو أنّ المطلوب تحقيق عدد من الأهداف دفعة واحدة، في مقدّمتها هدفان خطيران
1. ضبط تطوّر الزيادة البشرية باتجاه معين، يضمن الحدّ من النسل في دول الجنوب، لا سيّما البلدان الإسلامية، مقابل العمل على تشجيع النسل في البلدان الغربية
2. نشر أسباب الفساد والانحلال وتفكّك الأسرة في الجنوب على أوسع نطاق، كما وقع في الغرب، لا سيّما في السنوات الثلاثين الأخيرة من القرن الميلادي العشرين، حتّى ولو كان ذلك سببا في زيادة المواليد ثمّ محاولة مواجهة ذلك بالأساليب المتبعة في الغرب، ما بين تقنين الأوضاع الشاذة على صعيد العلاقات الجنسية بما فيها أوضاع المواليد غير الشرعيين، وبين انفلات الأمور على صعيد الجيل الشاب وقد بات يستبيح الإجهاض رغم تقنين الإباحية ورغم تشجيع النسل في الغرب
وقد بدأت تظهر في الغرب ردود فعل مضادّة لظاهرة الإباحية، لا يتسع المجال للتفصيل فيها، ولكنّ ينبغي التأكيد أنّ محورها الرئيسي هو الإحساس بالأخطار التي تهدّد كيان الأسرة، وتهدّد من خلال ذلك وجود المجتمع نفسه، فتضعف مناعته الذاتية، وهو ما يراه كثيرون بمثابة أرضية تمهّد لسيطرة فئات محدود العدد، هي المستفيدة أكثر من سواها من ظاهرة العولمة، داخل نطاق الدول الغربية نفسها، حيث انتشرت ظاهرة الفقر جنبا إلى جنب مع انتشار ظاهرة تكوين الشركات والمؤسسات المالية العملاقة بأبعاد عالمية ترسّخ هيمنتها على كلّ صعيد، لا الصعيد الاقتصادي والمالي فقط، في البلدان الغربية، وليس عالميا فحسب
في الوقت نفسه لم يعد يوجد أثر يستحق الذكر للجهود التي قيل على امتداد عدّة عقود، إنّها كانت تبذل لتخفيف هوّة الفقر والثراء، والتخلّف والتقدّم، بين الشمال والجنوب، فحتّى القروض الإنمائية التي كانت توصف بالسبيل الرئيسي لمساعدة الدول النامية، أسقطت من الحسابات الغربية، إلاّ في حدود ما يكفي لربط دولة نامية بدولة معطية، والمفروض أن تزيد حسب الأرقام الدولية، فقد كان20 في المائة من البشرية يعيشون دون الحدّ الأدنى الفقر، وارتفعت النسبة إلى 25 في المائة، ثلثاهم، أي 800 مليون نسمة، لا يجدون ما يكفي من الغذاء أصلا، كما أنّ ثلث البشرية لا يتجاوز وسطي دخل الفرد منهم دولارا واحدا في اليوم، وكان ذلك ما يشمل 21 في المائة قبل سنوات معدودة
إنّ هذه الأوضاع مقترنة بانتشار ظاهرة العولمة هي المشكلة الحقيقية التي يجب العمل على مواجهتها عند النظر في أوضاع البشرية، فالمشكلة ليست كميّة بقدر ما هي مشكلة نوعية، تتطلّب من الدول النامية، لا سيّما الإسلامية، مواجهتها على كلّ صعيد، في ميدان القيم وترسيخها، وفي ميدان التطوير اعتمادا على الإمكانات الذاتية أولا، وفي ميدان ربط الزيادة البشرية بالحفاظ على المجتمع من خلال الحفاظ على الأسرة، وكذلك في ميدان إزالة الخلل القائم في توزيع الموارد، داخل البلد الواحد، وفي إطار العلاقات بين الدول الإسلامية والنامية، فضلا عن مواجهة خلل الارتباط بالقوى الدولية اقتصاديا وماليا بما يخدم مصالحها على حساب المصالح الذاتية والمصالح الإقليمية
وترى الدراسات أيضا أنّ فئة الأعمار بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين من العمر، والتي تعدّ أكثر من مليار نسمة في العالم، هي التي ستقرّر حجم الزيادة البشرية في العقود المقبلة، على حسب ما تختار لنفسها على صعيد الإنجاب المبكّر أو المتأخّر، وعدد الأطفال الذين ترغب الأسرة في إنجابهم
ويكمن محور المشكلة في أنّ دعوات الحدّ من زيادة سكان الأرض أصبحت تطلب من دولة كمصر، أنّ تعمل للحدّ من الإنجاب، بينما تمارس الدول الصناعية سياسة توزيع الدعم المالي الرسمي بالمليارات وتشريع مزيد من القوانين لدعم إنجاب الأطفال، وبعملية حسابية بسيطة يتبيّن، أنّ كلّ مولود جديد في بلد كألمانيا، يستهلك بين ولادته ووفاته، من موارد الأرض، مثل ما يستهلكه 65 طفلا يولدون في مصر، فعلى مصر إذن الحدّ من إنجاب 65 وليدا، لتأمين ما يعيش منه مولود ألماني واحد.
اضافةتعليق
التعليقات