سألَتْها غيمةٌ بفخر: "هل شربت أعذب من مائي؟"
فأجابها صمت حاد خدش كبرياءها. تغيّر لونها، تلاشى سوادها، وأومأت بوجهها عنها، حابسةً مطرها. لكن أشباح ذلك الصمت ظلت تزورها، حتى كبرت وجالت العالم فرأت بنفسها، وفهمت لما كان سكوت الزيتونة، تلك الشامخة فوق تلال العز، الصامدة تحت جور العدوان، المتأصّلة في حجر الانتماء، تجرّعت عذباً باردًا وعذبًا حارًا وعذبًا ملتهبًا. لا يستطيع عذب سحابة أن يرويَ ظمأها ويطفئ حرارة اشتياقها فقالت للغيمة عندما عادت مرّة أخرى:
نعم شربتُ عذبًا، كنتُ بين ظلماتٍ ثلاث، مع حبّات التراب، لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا. لم يكن الماء أول من روى ظمئي، بل كان عرقًا زلالًا باردًا. هبط عليّ، فأيقظني من طول هجعتي، فشربته حتى خرجتُ من الظلمات إلى النور.
ومذ أبصرت نور الشمس، رأيت من عجائب الدنيا ما يشيب له الشعر وتصفرّ له الأوراق، فكبرت ويد الفلاح ترعاني. لكنّي لم أكافئه على جزيل عطائه، بل غدت أغصاني عصيّةً تأبى أن تحمل لتوفّي شيئا من ديوني، وتكاثفت الديون، حتى بتُّ خجلةً من نفسي، أرجوه أن يتركني وحيدة، أعضّ على جراحي. لكنّ يديه الخشنتين كانتا تداعبانني بكل عطف، وهو يقول:
"الحمدلله الذي وفّقني لأن أسقي أرض وطني، وأربي في أحشائه شجيرات، يحفظن وجوده ويروينَ قصتي."
ثم شربت عذبًا حارًّا، تضعضعت له أركاني، واحتوته كل جوارحي، فبات يسري قوة بين أوراقي، والأعاصير تعصف بي، فتأبى أن تُكسر غصوني.
ارتويت من ذلك السائل الحار، الأحمر القاني، وأنا أنظر الى شابٍّ يستند عليّ، يحتمي بين أغصاني. احتضنته بملءِ وجودي، فلم أكفه شرّ رصاصٍ مزّق أعضاءه. لم أكفِ عينيه. لم أكفِ يديه. لم أكفِ صدره المشتعل حبًّا. لكنّه رواني وزادت ديوني.
ثم شربتُ عذبًا ملتهبًا، غلى به الشوق حتى غلت معه أركاني. شوق أمّ فقدت عزيزها، فاشتعل صدرها أسى، حتى تمنيتُ لو أن جوفي يُفتح لها، فتسكنه، ويسكن أنينها.
لكنّها احتضنت التراب بين أوصالي، تذكر شبّانا نالهم سلام صاحب الزمان. فسجدت شكرًا وصبرًا، والعيون تستعر نيرانا وعشقًا. فروتني النار وزادت ديوني.
كيف وفيتُ الديْن، هل تدري؟
حملتُ الخليط العذب ثمارًا خصّها ربّ العزّة بالذكر، ونشرتُها بين تراب الجنوب. فنمت أشجارٌ تروي قصص الصبرِ والنصرِ.
اضافةتعليق
التعليقات