في هذه الساعة المتأخرة من الليل وانا امازح فنجان قهوتي الورقية، لمحته من بعيد!، رجل سبعيني جالس على حافة مصطبة، يرتدي قميصاً اسودا ذو ازرار مقفلة..
يرخي ثقل روحه الهزيلة في الفضاء وكأنه يحمل في عقله جنينا من الفكر عمره تسعة اشهر وسبعة أيام.
تراءى لي بأنه يفرغ جلَّ تركيزه في نقطة معينة، كان بودي بأن اخبره أن العينين الناعستين لا يجسدان التحديق بصورته الدرامية! ولكني تراجعت في آخر لحظة.. ولم اقترب، خشية من ان اقطع عليه طقوسه العرفانية، وحبل التناغم الذي يصله بذلك المجهول... تركته يغرق بكل نشوة في تفاصيله السمراء!، واكتفيت بمراقبته من بعيد.. واخرجت قلمي المكسور لأرسم هذه الهالة التي كونها حوله من شدة السكينة.
في الحقيقية كنت بحاجة الى الاقتراب ربما من باب الفضول او لأدوّن تجاعيد وجهه السبعينية، او لسبب اخر لا ادري ما هو!.
على كلٍ تجرأت واقتربت من سلسلة عمره قليلاً، لم يكن عجوزاً كما أوحى لي، بل شاباً عشرينياً لم يتجاوز العقدين والنصف!. متُّ في لهفتي ولم اعد الى وعيي الاّ بعد سماع صوت انكسار الفنجان!.
هذا النص هو تشبيه صريح عن الحالة التي يمر بها معظم الناس في العالم، الذين يبنون آمالهم في البعد ويحللون ظاهرة معينة او يتنبأون عن مستقبل او موضوع دون ان يقتربوا منه!، خشية من الصدمة بالواقع ويبقون في البعد يرسمون مجهولاً وردياً او كابوساً مرعبا.
فتبدأ التفسيرات والتحليلات تأخذ مجراها على وفق اجتهادات شخصية لا تمت بالواقع أي صلة!.
الاقتراب والخوض في الواقع هو امر مهم جداً وضروري حتى وان رافقته الصدمة!، فالصدمة النفسية تزول مع مرور الوقت، ولكن العيش في دائرة الاوهام يستمر الى مدة غير معلومة وتأثيره النفسي يكون كبير جداً لدرجة ان هذه الاوهام تبدأ بالتحكم في حياة الإنسان وتلعب دوراً سلبياً على حياته.
مثلا شخص تُعرض عليه مناقصة معينة، ونسبة ربحها عالية، من الممكن ان تسبب له انقلابا ماديا كبيرا ويوسع من عمله، وتُعمق من علاقاته التجارية، ولكن هذا الشخص ينسى جميع هذه الايجابيات، ويبقى في قلبه خوف من المجهول والمخاطرة!، ودون ان يقترب من المناقصة ويدرس تفاصيلها يمتنع عنها ويرفض الخوض فيها!.
او شخص اخر يعجب بفتاة ذات دين وخلق، ويبقى في البعد يرسم لنفسه امالاً وردية ويعيش في عالم خيالي ولا يستعجل في طلب يد الفتاة خوفاً من ان تهدم عالمه الوردي بالرفض!، ولكنه نسي بأن هذه التخيلات مجرد أوهام من الممكن ان تحمل الخطأ، ويبقى متردداً الى ان تعقد الفتاة قرانها على شخص اخر وتضيع من يده.
غالباً ما تتمدد هذه الأوهام في مرحلة الشباب، لكون الشاب يصيبه شيء من خوف المجازفة في أمور جديدة، كما ان كبرياءه ونرجسيته العالية يرفضان فكرة الفشل، لهذا السبب تجده لا يقترب من المواضيع التي تحمل نسبة فشل، حتى وان كانت هذه النسبة ضئيلة او شبه عدم!.
هذا هو عمر الغرور، العمر الذي يفقدنا لذة التمتع بالأشياء، ولن نشعر بهذه الخسارة العظيمة الاّ بعدما نتعدى الأربعين او الخمسين ونصل الى مرحلة عمرية نحب ان نجرب فيها كل شيء على أساس ان الانسان يعيش مرة واحدة في هذه الحياة وشرف المحاولة يكفي وتفاءلوا بالخير تجدوه، وسنحاول علنّا ننجح، والكثير من هذه المقولات التي تأخرنا عن فعلها دهراً من العمر بسبب الخوف او التردد الفارغ!.
ومن المؤكد ان الخوض في مواقف جديدة ومشاريع ضخمة تحتاج الى شجاعة كبيرة ولكن الشيء الذي يدعم الشجاعة ويزيد نسبة نجاح الموقف او المشروع هو الثقة!.
اذن الثقة بالنفس وبالقدرات الشخصية تلعب دوراً مهماً في إنجاح الحياة، لأن ثقة الانسان بنفسه تزرع بذرة الاحترام بين الناس، وتحتل في قلب المجتمع مكاناً بارزاً، وعلى أساس ذلك سينال تقبل الجمهور وستتسهل اموره بصورة اكبر.
كما ان النظرة العامة ودراسة المشاريع التي يريد الانسان الخوض فيها كالعمل والزواج والدراسة وامور أخرى، جميعها تحتاج تمعنا دقيقا ودراسة شاملة للسلبيات والايجابيات ثم الخوض فيها بكل ثقة، وعدم التردد في ذلك.
وحتى لو فشلنا في بعض مواضع الحياة سنخرج من التجربة بدرس جديد نستفيد منه في محطات أخرى، لأن الحياة عبارة عن مواقف وتجارب ننجح في بعضها ونفشل في البعض الآخر ونستفاد من ذلك الفشل، وهنالك الكثير من الحكماء يقولون: ليس هنالك تجربة فاشلة، بل هنالك تجربة غير ناجحة.
فمثلاً لو ان ذلك الشخص الذي اعجب بالفتاة تقدم لطلب يدها، لكان قد حدث احتمالين، احدهما هو ان تقبل الفتاة بطلبه وتصبح زوجته ويفوز بها وقد حقق بذلك مناه ووصل الى حلمه الوردي، او الاحتمال الآخر وهو ان ترفضه الفتاة، فيغض البصر عنها، ويكمل مسيرة حياته ويرتبط بإنسانة أخرى ويعرف مصيره ويكف عن نسج الاوهام.
ولكن ضريبة التردد الذي منعه من التقدم سيعيش بسببه في حالة من التأنيب النفسي لكونه لم يستعجل ويتقدم لها وضيع فرصة العمر، وانه لو كان تقدم لكان حصل كذا ولو ان...الخ.
يعني باختصار اكبر سيعيش بدوامة ال (لو) الى حدث غير معلوم بسبب تردده وخوفه من الخوض في تجارب الحياة ومواجهة الموقف وتحمل مسؤولياته بنفسه.
ويبقى الواعز الأكبر للنجاح هو الايمان بالله والتوكل عليه، والذي سيكون سيد الموقف، كما ان معرفة الحاجيات الانسانية والمتطلبات الشخصية لها دور كبير لصناعة الظروف الملائمة في خوض المشاريع ومواقف الحياة الخاصة، ويبقى كيفية اغتنام الفرص على ذكاء الإنسان وايمانه، لأن الحياة لا تقدم لنا النجاح على طبق من ذهب، بل يجب ان نسعى لذلك بأنفسنا ونبذل قصارى جهدنا في ذلك، ويؤكد ذلك الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) في قوله: "اغتنموا الفرص، فإنها تمر مرّ السحاب".
اضافةتعليق
التعليقات