المقال الفائز بالمرتبة الأولى في المسابقة الأدبية التي أقامها موقع بشرى حياة بمناسبة عيد الغدير
يشهد العالم العربي اليوم صراعات فكرية قوية، والتي أدت إلى استيراد الكثير من الايدولوجيات والمفاهيم الغربية التي تحاول أن تلغي فكرة المجتمع وتتعامل مع الأفراد على أنهم عناصر منفصلة ولا يوجد بينهم أي روابط مشتركة.
ولعل من أبرز الأفكار التي بدأت تأخذ صداها في العالم العربي هي الفردانية، "individualism" المشتقة بدورها من كلمة "individual" التي تعني الفرد.
"وهي باختصار تعني الرؤية الاجتماعية التي تعلي من قيمة الفرد المعنوية، وتجعل أهدافه ورغباته، بل شهواته ونزواته، في مكانة أعلى من أفكار مجتمعه وقضايا أمته، وعليه فإنها تعتبر أيَّ إلزامٍ للفرد بمسؤوليات وواجبات نحو القضايا الاجتماعية الكبرى، انتهاكًا لخصوصيته وتقييدًا لحريته."[1]
وهذا على عكس ما ينقله التاريخ إلينا، فقد كان العرب ولا زال الكثير منهم متمسكين بقبائلهم ويفتخرون بشعوبهم وهذا ما يؤكده الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"[2].
فالإنسان بطبيعة الحال ينتمي إلى الشعوب وإلى القبائل، ويعيش جوا اجتماعيا مع الناس، وله روابط كثيرة تجمعه مع الآخرين، وهذا الأمر لا يتعارض مع التطوير الشخصي والسعي إلى الكمال، ولكن الفردانية التي تشجع على العزلة هي التي تتنافى مع جميع القيم الاجتماعية والدينية التي انفطر الإنسان عليها.
فما يحصل اليوم هو انسياق الناس وخصوصا شريحة الشباب إلى الفردانية وابتعادهم عن المجتمع، وانخراطهم الكامل إلى العزلة.
فقد بات الشاب العربي اليوم متجردا من القضية، يعيش من أجل نفسه فقط ويخطط لأهدافه وطموحاته الشخصية وتطوير مهاراته الفردية تاركا خلفه القضايا المجتمعية والوطنية والدينية التي تحمل شعار الكفاح والنضال والعدالة الاجتماعية.
فقد تجد الكثير منهم قد ابتعدوا عن محور السياسة والدين من أجل شراء راحة البال والحفاظ على الصحة النفسية، وتنازلوا عن كل القضايا السامية التي اريقت أزكى الدماء من أجل الحفاظ عليها!.
فنجد الباحث "جون ألترمان" يعبر عن هذا الوضع: (ظاهرة الفردانية تتسارع في الشرق الأوسط، فالأجيال الصغيرة لم تعد مقيدةً بالروابط الاجتماعية التقليدية، هؤلاء يتجهون نحو تنظيم اجتماعي ذَرِّيّ، فالشباب أكثر قابليةً للتنقل، والعائلات مفككة بطريقة أكثر مما كانت عليه من قبل).
فقد بدأت الحركات التي تهدف إلى صناعة الشخصية الفردانية هي التي يعلوا صوتها مقارنة مع الحركات الاجتماعية التي لم يعد لها في يومنا هذا أي صدى، فقد أصبحنا نشاهد الكثير من الإعلانات والورشات التي تحمل عناوين صناعة (الشخصية الناجحة، الشخصية المستقلة، كيف تعيش بسلام داخلي)، فالمشكلة ليست في العناوين التي تحملها هذه الورشات او المحاضرات إنما بالمفاهيم والأفكار التي تبثها والتي تركز على الفرد فقط وتلغي المجتمع، وتخاطب الانسان وكأنه يعيش بمفرده في هذا العالم!
وعليه سنفصل في هذا المقال ثلاثة مستويات مختلفة لمفهوم الفردانية:
أولا/ المستوى الاجتماعي:
إن ما يرنوا إليه مفهوم الفردانية اليوم هو تضخيم الأنا، والاتجاه نحو عالم الماديات والابتعاد التام عن القيم، وأن الهدف الرئيسي للفردانية والذي يمثل (التحرر من الروابط الاجتماعية) سيؤدي في النهاية إلى نواتج خطيرة منها:
١-العزوف عن الزواج.
٢-التشجيع على اللاإنجابية.
٣-التخلي عن العائلة.
٥-هجر الوالدين.
وهذا بالفعل ما يحصل في الغرب منذ أزل السنين إلى يومنا هذا، إذ يعيش كل شخص منهم بصورة مستقلة متحررا من كل الضوابط الاجتماعية والأسرية، وما أن يصل إلى عمر الهرم حتى يجد نفسه مرميا في دار المسنين!
والكثير منهم يرفض فكرة الزواج والإنجاب لأنه لا يريد لأحد أن يشاركه حياته وخصوصياته، وغير مستعد أن يضحي بنفسه ووقته وماله من أجل شخص آخر حتى وإن كان هذا الشخص هو طفله أو زوجه!
لأن بكل اختصار المصلحة الشخصية تطغوا على كل المصالح.
يقول جيل ليبوفتسكي واصفًا هذا التفكك الاجتماعي والفكري: “من لا يزال يؤمن بالعمل حينما نعرف نسب الغياب والدوران الوظيفي، وعندما نرى تزايد الحماسة للعطل وعطل نهاية الأسبوع وأنشطة الترفيه، وحينما تصبح الإحالة على التقاعد تطلُّعًا جماهيريًّا، بل مثلًا أعلى؟ ومن لا يزال يؤمن بالأسرة عندما نرى تزايد نسب الطلاق، وإرسال المسنين لدار العجزة، وعندما يرغب الآباء في البقاء “شبابًا”، ويلجؤون إلى المختصين النفسيين، وعندما تصبح الزيجات “حرة”، وحينما يصبح الإجهاض ومنع الحمل والتعقيم أمورًا مُشرعنةً بقوة القانون؟ ومن لا يزال يؤمن بالجيش عندما توظف جميع الوسائل في سبيل إصلاحه، وحينما لا يعود التهرب من الخدمة العسكرية عارًا؟ ومن لا يزال يؤمن بفضائل الجهد والادخار والضمير المهني والسلطة والعقوبات؟"[3]
فكل الأمور التي ذكرت في الأعلى هي عين الفردانية، سواء الهاربون من الجيش، المطلقون لأسباب تافهة... جميعهم فردانيين، لأنهم لا يفكرون سوى بأنفسهم، إنهم باختصار أنانيون للغاية!.
ثانيا/ المستوى العقائدي:
لازالت الكنيسة تعيش الكثير من الصراعات الفكرية والانحرافات العقائدية، والتي أدت بدورها إلى الترويج للمسيحية على أنها دين الانعزال والفردانية، وبأن الانسان يجب أن ينعزل عن العالم ليصل إلى ربه، إذ يقول الفيلسوف الإنجليزي “برتراند راسل” في كتابه “ما الذي أؤمن به” والذي يرى أن المسيحية كانت من أسباب انتشار الفردانية، فيقول: “فأكثر الرجال فضيلة الذين يعتزلون العالم، لم تقدس الكنيسة يوما رجلا لأنه نظم الموارد المالية، أو القانون الجنائي، أو النظام القضائي، إن مساهمات كهذه تخص السعادة البشرية لا تُعد مهمة، ومع هذا الفصل بين الإنسان الأخلاقي والاجتماعي، ازداد الفصل بين الروح والجسد، فالأخلاق المسيحية قد جعلت بنفسها بشكل كامل فردانية، وأعتقد أن النتيجة الواضحة لكل هذه القرون من المسيحية أن البشر أصبحوا أكثر أنانية، وانغلاقا على أنفسهم” ومن هذا الكلام نستنتج بأن البيئة الغربية كانت مشجعة لنمو الفردانية وأن الكنيسة ساهمت في انتشارها.
وهذا بالطبع مغاير لما هو موجود في القرآن الكريم الذي يحث على الروح الأممية إذ يقول عز وجل في كتابه الكريم "انَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ"[4]
ويرى الدكتور “طه عبد الرحمن” في كتابه” بؤس الدهرانية” أن الحداثة الغربية التي أقامت مشروعها على الدنيا والمادة سعت لتعطيل دور الدين في مجالات الحيوية، وكان الفصل أحد أدواتها ووسائلها، وكان أبرز مجالات الفصل: الدين عن العلم، والسياسية عن الأخلاق، كذلك أصبح الفرد يعيش تصورات جزئية، تظلله رغبة عدم المشاركة مع الآخرين، واتسم طابع حياته بالأنانية، والرغبة في التحلل من قيود المسئولية الاجتماعية، لذا كان العزوف الكبير عن الزواج، والتخلي عن مسؤوليات الأسرة."
ثالثا/ المستوى التكنولوجي:
لا ننكر بأن العولمة لعبت دورا كبيرا في نشر الفردانية والتشجيع على العزلة، فالإنسان اليوم بات عديم الرغبة في التواصل أو المشاركة في النشاطات الاجتماعية لأنه أصبح يلبي جميع احتياجاته النفسية والاجتماعية والعاطفية من خلف الشاشة، وبعدها لا يجد الحاجة للخروج أو التواصل المباشر مع الناس.
ليصبح جهاز لا يتعدى العشر سنتمتر كفيلا بأن يعزل الانسان عن مجتمع كامل ويحصره في زاوية العالم الإفتراضي.
تذكر “شيري توركل" عالِمة الاجتماع الأمريكية، في كتابها “معا بمفردنا” أن التكنولوجيا أصبحت تقوم بهندسة علاقاتنا الاجتماعية، فالإنسان على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي له مئات بل آلاف الأصدقاء، لكنه ربما يفشل في إدارة علاقته داخل أسرته، وهو ما يقود إلى عزلة كبيرة، فالتكنولوجيا تملأ فراغ الإنسان، لكن البشر غير قادرين على البقاء بمفردهم، وكذلك لا يستطيعون البقاء معا، وأمام هذا التناقض، جاء الموبايل ليقدم حلا، ولكن تدميريا للعلاقات الإنسانية.
"بل وأن الأمر قد وصل إلى أن الإنسان صار يحصل على انتماءات أيديولوجية وفكرية داخل مواقع التواصل، وبات بإمكانه الانضمام إلى تكتلات افتراضية، تبعده شيئًا فشيئًا عن الانتماء الحقيقي للأمة، وتجعله منعزلًا عن قضاياها وهمومها.
طبعًا لا يفوتنا هنا أن نشير إلى نقطة محورية: ماذا عن استخدام مواقع التواصل من أجل تقوية أواصر الانتماء للأمة؟ ومن أجل متابعة مستجداتها والتفاعل مع نوازلها، الواقع أن هذا الشكل من الانتماء كثيرًا ما يصير مبالغًا فيه، حتى يصدق عليه المثل الشهير: إذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده! حيث إن الانغماس في مواقع التواصل من أجل متابعة قضايا الأمة، يشغل عن العمل الحقيقي لنصرتها"[5].
ومن هنا نجد بأن نزعة الفردانية نزعة خطرة ولها عواقب وخيمة على الفرد وعلى المجتمع، لأن ما ينتج عن هذا الفعل هو الغاء روح المجتمع والتخلي عن القيم الاجتماعية والأفكار التي تصب في مصب حقوق الجماعة والعدالة الاجتماعية والكفاح المجتمعي وإلغاء المصلحة العامة وتفضيل المصلحة الخاصة على المصلحة العامة التي لطالما أكد عليه الدين الحنيف، ولأن الدين الإسلامي هو الدين المناسب لكل مكان وزمان وهو الدين الذي قدم الحلول لجميع المشاكل التي واجهت أو لازالت تواجه أو ستواجه الناس في المستقبل.
لذا نجد أمير المؤمنين شخص المستقبل قبل أكثر من ألف واربعمئة عام وعرف ما ستؤول إليه الأحداث اليوم من استفحال نزعة الفردانية بين الناس إلى الابتعاد وحب الأنا، لذا قدم لنا الحل الأمثل لمواجهة هذه النزعة الخطيرة من خلال كلماته إلى ابنه الامام الحسن (عليه السلام) فقال في وصيته المشهورة:
"...يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وبَيْنَ غَيْرِكَ - فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ - واكْرَه لَه مَا تَكْرَه لَهَا - ولَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ - وأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ - واسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُه مِنْ غَيْرِكَ - وارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاه لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ..."[6].
فنجد الحل في توكيد الإمام على الاهتمام بالعدالة الاجتماعية، ورعاية الآخرين ومعاشرتهم بالخير والحب والحسنى ومراعاة المصلحة العامة وتفضيلها على المصلحة الخاصة، وعدم الانخراط في موجة الفردانية والانعزال عن المجتمع وتضخيم الأنا!.
فمهما ضاقت السبل وتكاثرت علينا الأهوال وزادت الهجمات الغربية علينا وعلى الإسلام سيبقى الدين هو المرشد والمنقذ الأول والأخير من كل المشاكل والشرور التي تمر على هذه الأمة.
اضافةتعليق
التعليقات