كغيمة سوداء مدت ذراعيها لتغطي روحي، لعدة أيام شعرت فيها أنني مصابة بشلل تام جراء ذاك الحزن الذي أصابني وجعلني أبتعد عن كل الأشخاص الذين أحبهم منتشلة جسدي من شغفه، كانت رسالة بسيطة من صديقتي المقربة ظهرت على واجهة هاتفي الصامت كتب فيها: (هل تعلمين أنني أحبك)، نظرت إليها لدقائق فشعرت أنها تمدني بطاقة غريبة، كانت كلمة بسيطة أخرجتني من عمق حزني الذي راودني لأيام جراء كلمة خبيثة جرحت أحشائي وعزلت روحي، فما ضر الناس لو كلهم بلسانها ينطقون.
الشعاع السابع: لين الكلام ولطفه
عن أثر الكلمة التي ينتشلك بها وجه بشوش وأنت في سراديب الأحزان تتلقاها كنفحة من عطر فياح، يقول جل جلاله (أَلَمْ تَر كيفَ ضربَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيبَةً كَشجَرةٍ طَيِبَةٍ أَصلُهَا ثَابِتٌ وَفَرعُهَا فِي السَمَآءِ)، إن اللسان عضلة صغيرة ولكن شأنها عظيم، قد تنتشل انسانا من سراديب ألمه وتوقع آخر في عمق أحزانه إن نفثت سمها وقلصت حديثها وشح فيها اللطف، وإن أرخت نفسها وفتحت أبواب اللين كانت شهدا يهدى لسامعيه وصاحبها محبوبا عند الله ومحسوبا من الأتقياء قبل أن يكون بين الناس شجرة مثمرة يرغب الجميع بظلها، فقد ذكر إمام العارفين وأمير المؤمنين (عليه السلام) في مقطع من خطبته لوصف المتقين الذين وصلوا درجات عليا من القرب الإلهي قائلاً: «بَعِيداً فَحْشُهُ، لَيْنَا قَوْلُهُ»، وكان يقصد في قوله: «بعيداً فحشه» أي ليس يعني أنه قد يفحش تارة ويترك الفحش تارات، بل لا فحش له أصلاً، وأما
«ليناً قوله» أي يتكلم بالرفق ولا يغلظ في كلامه، فإن الرفق في القول يوجب المحبة ويجلب الألفة، ويدعو إلى الإجابة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولذلك أمر الله عزوجل موسى وهارون عند بعثهما إلى فرعون بأن يقولا له قولاً ليناً، ليكون أسرع إلى القبول وأبعد من النفور مع أنه بلغ الغاية في التجبر والبطش، فلا شك أن الفطرة الإنسانية والطبيعة البشرية جبلت على حب الرفق واللين، ولا ينكر أحد فضلهما في إشاعة المحبة والألفة بين البشر.
فالرفق صفة من صفات المولى سبحانه وتعالى، ولكن من المؤسف أننا اليوم نرى أن لطف المنطوق قد قل إن لم يكن قد ندر، تجد الجميع جالسا يتغنى بصفات سلبية تحت إطار (التنمر) يأخذها في بادئ الأمر كمزحة فيُضحك الجالسين ثم إنها تطبع على لسانه لتصبح صفة ملاصقة له تبث فحشها أينما حلت فيعتاد عليها الناس ويروها شيئا طبيعيا لا يوجب الضجر أو رده.
بينما الحقيقة مغايرة تماما ومحزنة أن نبحث في المسلمين عن جزء من صفات الاسلام فلا نجدها أولها هو لين القول الذي جعله النبي (صلى الله عليه وآله)، في صدر الحسنات التي على الإنسان أن يتقرب بها لمولاه فهذا هو منهج الإسلام، لذلك يتعين علينا أن يكون كلامنا كله طيباً ينفعنا عند ربنا.
ونعيش به متحابين مع من حولنا فالكلمة الطيبة أصل عظيم في التعامل الاجتماعي التي بُعث بها الأنبياء والمرسلون، يكاد اليوم يخفِت نورها في هذا العالم المتواصل تقنياً، لسهولة الخوض في ما يعني وما لا يعني، لعدم وجود الرقيب الذاتي على الكلمة، وضعف الرقيب الولائي عليها، بحجة حرية الرأي، مع عدم صحة هذه النظرية في الواقع، فإن من الكلام ما هو جارح ومؤثر، فربنا سبحانه يقول: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، ويقول: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
فأمر بالقول الحسن مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، ومع ذلك فإن الناس يعرضون صفحاً عن كلام ربهم، بينما كلمة طيبة واحدة قد تحقق المآرب للناس، وتكسب التواد والتراحم، وهي خُلق الإسلام الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) قائلا: «الكلمةُ الطيبة صدقةٌ» أي تنال بها أجراً لأنها تسر السامع وتشرح الصدر، وقد لا تغير من الواقع شيئاً، لكنها حتما ستغير شيئا في نفس السامع فالناس جميعا بأمس الحاجة لكلمة طيبة في هذه الظروف المعتمة.
وبما أن الكلام لا يشترى وهو مجانا بفضل من الله فما ضر الناس لو فكروا مرتين قبل صياغة كلامهم وثلاثاً قبل نطقهم فلن يُنقص من وزنهم، وسوء الكلام لن يثقل ميزانهم، فإن لم يكونوا يميلون لدين فأقلها يجب أن يميلوا إلى الإنسانية، فإما قل جميلا أو اصمت، فإن الصمت حكمة فإن لم يكن الحديث خيرا، فسلامة المنطق من سداد الرأي وحسن اللفظ من كمال العقل.
اضافةتعليق
التعليقات