- افقأ عينها.
- ماذا؟!
- هل عليّ إعادة ما قلته للتو؟
- لا... لا.
- اغرب عن وجهي ونفذ ما أمرتك به.
- حا... حاضر سيدي.
يالها من مهمة مستحيلة... فماذا هو فاعل إزاء هكذا أمر مجنون؟ لكن الحل في كسوف دائم يحلّ على هذي الأرض الماجنة للإفلات من حبل التهمة الجاهزة لقطف رقبته اليانعة كذريعة إعلانية لا غير، فما أسهل توزيع التهم عندهم بالخيانة العظمى.
أجل، التمرد على تنفيذ الواجب المقدس، والتخاذل والعمالة لأعداء الوطن من خارج الكرة الأرضية!.
صوت سقوط الإبرة على البلاط كان كافيا لاستشاطته غضبا، النظرات كلها للأسفل ترصد حالة عجيبة فيما تتناقل الأفواه بهمس مرتعد وصفها، أيعقل أن يتساوى ظلان أحدهما لصغير حافٍ بثياب بالكاد تستره والثاني ظل الـ(قا............) محال أن يرضى أحد بهذا، قالوا جميعاً بصوت واحد كببغاء مدرب على رد السلام.
لم يكن وحيدا فهناك عدد لا بأس به يعاني من مرضه متوزع بتنسيق محكم كأحجار الشطرنج، ربما كان أبرزهم حين تخط قوائم المأبونين، سيد الموت الزؤام، ومحطم الشرائع على شفير الظلام، وقالع أضراس الأسد!
خلسة وصعودا لرغبته أُحضر أشهر الأطباء.. بل خبيرهم على هودج الإذعان، لم يستغرق الأمر إلا لمحة خاطفة للمكان وللشخصية.
- لا يشكو من شيء البتة، قامة بحجم وطن، ذراعان كزبر الحديد، ساقان اعتادا الكراسي المريحة، سحنة ناعمة ووجه خال من أي تعبير، شعر طويل لغرض ما، لكنه للأمانة يخفي ما يخفي من وراء هيئته الجامدة وكلامه المصفوف بعناية، يبقى منتصبا كخشبة وهو يصافح في استقباله الرؤساء والقادة لكي يجبرهم على الانحناء أمامه، الطود لا ينحني للعاصفة!
أكمل الطبيب حديثه بنبرة فيها مسحة توتر:
- إنها في الغالب عقدة قصر!
- ليس الوقت مناسبا للمزاح، أي قصر تتحدث عنه، إنه أطول الجميع، أطولهم جسما وأكثرهم مقدرة.
مثلما هي العقد غالباً تحيد بالمرضى للتصرف بعكس حقيقتهم كمن يهرب من ظلّه، كوابيس الشعور بالنقص والدونية تطاردهم في يقظتهم قبل منامهم، المبالغة في إظهار التدين والخشوع أمام الكاميرات وتكرار القضاء والقدر والتسليم لهما في الخطابات الرنانة وأثناء القيام بجولات الحملة الإيمانية... إنما هي محاولة للحدّ من وحشية مخالب وأنياب الكفر المتعطشة للدم التي تنهش في ذواتهم قبل نهشها بلحوم الأبرياء والضعفاء من الخلق، كذا عقدة الجبان وتظاهره بالشجاعة، والخسيس بالشرف!.
ازداد اضطراب الطبيب مع تضاريس الغضب التي بدأت تتكشف في ملامح المكلّف، إيماءات بوعيد لا تحمد عقباه دعته لإضافة:
- أعني... لديه... قصر ظل!
رنّت ضحكة المكلف المجنونة حتى سمع صداها سكان المدينة، بعدها لم يحدث أن سمع أحدهم ضحكته أو صادف الطبيب!.
في النهار تولت سياراته مهمة حجب العقدة، أما ليلا فيتخفى بحجة المهام المتراكمة، ورغم ذلك مازالت أشباح الظلال الوارفة تلاحقه كسكين مثلوم لتحز خياله شيئا فشيئا وإن لم تلتقِ به يوما!
قرر معالجة الخلل بسلمية بادئ الأمر، بعد دبيب اليأس من أطباء الأجساد الذين لاهم لهم سوى وصف الأدوية ونصائح التغذية، اليوم كبار المستشارين يدلون بتوصياتهم في هذا الاجتماع الطارئ، طاولة كبيرة تتوسطهم والخوف سيد اللحظة، قال أولهم:
-سيدي سعف النخيل الباسقة يزيدها رفعة، أرى أن تطيل شعرك عاموديا عسى أن يطيل ذلك ظلك.
أردف الثاني:
- كلما كان التل سامقا ازداد القصر سموا، أقترح أن تلبس كعبا عاليا وتستره ببنطالك.
نبح الثالث:
- لا يمكن التفريق بين ريش الطاووس فمجموعه يكسوه بهاء وجلالا، يمكنك المشي في ثلة حتى يضيع ظلك بين ظلالهم.
نهق الرابع:
-إذا ارتفع العلم عانق الغيوم، ارفع يديك ولوح بهما.
جاء دور الخامس أو من كان خامسا إذ قال:
-بمقدورك أن تطيل ظلك كما يفعل أصحاب الظلال الوارفة.
استوقفه الجواب الأخير بيد أن ذلك لا يوافق مصالحه، نفث التوصية وصاحبها مع دوائر دخان الجروت التي لا تفارق يده.
سُمع حينها فحيح السادس:
- اذهب إلى العراف العظيم فلديه بلا أدنى شك الحل الأمثل.
تململ فوق عرشه وأومأ بصولجانه ايجابا ثم رد بحمحة:
- هو كذلك.
استبق ضياء الشمس وارتقى المرتفع حيث يعتكف العراف، لم يفُه بشيء فالعلة واضحة، حملق العجوز في الظل الذي لا يتجاوز شبرين طولا وواحدا عرضا، ثم قال بغير صوت:
-ظلك يدعو للضحك فعلا، ألم تكفك كل هذه السنوات لإطالته، ليتك اعتنيت به كما تعتني بحديثك المنمق ووعودك المعطلة.
ظل صامتا هو الآخر، لا أحد يعرف ما يدور داخل الجمجمة الصلبة، ظل منتظرا الحل الذي جاء من أجله، تنهد العراف كمن يزفر عناء السهوب والتلال والبراري والقفار، وقتها تكلم بصوت يشاكل لحد كبير ريحا عاتية:
-عليك أن تقطع جميع الظلال... بقطع دابر الضوء!
أجابه بشيء من الذهول:
-وكيف ذلك؟
- جد طريقك وطريقتك.
وكما هو متوقع كان جزاء العرّاف جزاء سنمار باني قصر الحيرة، قطعا كانت هذه نيته منذ البداية وإلا علامَ تكبد الصعود بدل جلبه كما البقية؟
بعدها بدأت حملة شعواء وهي بالطبع تحمل عنوان (قوانين جديدة) لمنع مضار النوم تحت الضوء... بل ومضار الضوء عموماً وفوائد الظلمة!، خمّن أن تقصير الظلال لا يتطلب سوى بضع إشاعات هزيلة تشبع أكبر العقول الفارغة، لكن الأمر لم يُجدِ نفعا، الظلال الوارفة تزداد طولا يوما بعد آخر لتمتد لبيوت "الجينكو" والمدارس الطينية والمستشفيات الآسنة تنفث فيها تمرد الأحرار وعصيان الأباة.
انكفأ يحفر بأظافره التي خالفت بطولها ظله القصير باحثا عن أساليب لقطع الظلال أو تشذيبها كأضعف الحيل فالضوء بعيد، فكان القانون الثاني منع الخروج نهارا كي لا تميَّز الخيالات طوالا أو قصارا، إلا أن مصابيح الشوارع ليلا وبشكل فاضح حددت ظل كل شخص، إضافة لأضواء الكشافات اليدوية، ... فتم منعها جميعا!
الوضع الرتيب أنضج اشتياق الناس لظلالهم فأصبحت أسطح البيوت ميدانا لمسابقة مبتكرة للظلال بتحدٍ سافر لأي حملات قمعية، فاختفى نصف سكان المدينة وهجع النصف الثاني على سواتر الألم والأمل معا.
وفي لحظة مباغتة ظهر جسم يعدو وسط ظلام الفسحة الكبيرة، صرخ الحاجب:
- فقأت عينها سيدي... تستطيع أن تمشي باطمئنان.
يبدو أن عقل الرجل حلّ المعضلة بكل سهولة ويسر بالطيران من أسر الجمجمة ومحاولة الإنجاح لتجربة عباس بن فرناس!.
وقبل أن يستمتع صاحب الظل القصير بمذاق الحلم صعب التحقق، انفرجت عيناه كبوابة حصن مستباح، فقد التهمت الظلال الوارفة ظلّه وقصره وصولجانه وحتى طوله الفارع المزروع في حفرة!
اضافةتعليق
التعليقات