قصة من الأدب الروسي لأنطوان تشيخوف
الجو في بيت صاحب الدكان كوزمايكورف حار وخانق وما انفَكَ البعوض اللعين والذباب يحتشدان حول العيون والاذان مثيرين الضجر، وسُحب دخان التبغ لم تعد تعبق برائحة التبغ وإنما برائحة السمك المملح. في الهواء، على الوجوه، وحتى في طنين البعوض ملَل.
طاولةٌ كبيرة عليها فنجان من قشر الجوز، مقص، علبة دهان أخضر، سدادات ودلاء فارغة.
جلس إلى الطاولة كوزمايكورف عمدة القرية نفسه، معاون الطبيب ايفانوف، والخوري فيوفان مانافويلف ميخايلو، العراب بارفينتي ايفانج، وكذلك عسكري الجندرمة فارتوناتف القادم من المدينة لزيارة عمته أنس، فيما وقف بكبرياء بعيداً عن الطاولة سيرابيون ابن كوزمايكورف الذي يعمل حلاقاً في المدينة، وقد قدم لزيارة أبيه في العيد.
كان سيرابيون مرتبكاً.. ينتف شاربيه بيدين مرتعشتين. كان بيت كوزمايكورف قد استؤجر مؤقتاً كمركز صحي والمرضى ينتظرون الآن في غرفة الانتظار، وها قد جِيء بفلاحة مكسورة الضلع من مكانٍ ما وهي ملقاة.. متألمة بانتظار أن يتفضل معاون الطبيب ليوليها انتباهه. تجمهر الناس قرب النوافذ لمراقبة كيف سيجلد كوزمايكورف ابنه.. قال سيرابيون:
كلكم تقولون أنني أكذب.. لذا لا نية لي أن أطيل الحديث معكم، وأنت يا أبي لن تنال شيئاً ونحن في القرن التاسع عشر، إذ لا يمكن مواصلة الحياة دون عمل.
- إصمت!
قال كوزمايكورف بحزم.
لسنا هنا لنسمع مواعظك. فقط قل وبوضوح.. كيف بذرت نقودي؟ -
نقودك! يا لحذاقتك. -
إعلم اني لم ألمس نقودك، فأنت لا تدخرها لي. أنا بريء.
قال الخوري:
سيرابيون كوسمج.... أجبنا بصراحة، نحن نتمنى تصديقك كما أن أبيك لا يبغي سوى مصلحتك، وها هو يلتمسنا.. فلتقل بصراحة.. ومن منا بلا خطيئة يا بني؟
هل أخذت من خزانة ثياب أبيك خمسة وعشرين روبلاً.. أم لا؟
سيرابيون يبصق جانبا ويلتزم الصمت.
تكلم؟
راح كوزمايكورف يزعق ويضرب الطاولة بقبضتهِ.
تكلم.. أنت أم لا؟
ليكن ما تشاء..
ليكن.. صحح الجندرمة.
ليكن إذا أنا من أخذها، ليكن! -
لكنك تزعق بي دون جدوى وتطرق. لن يجدي الطرق، ومهما طرقت فلن تخرق الأرض بالمناضد.. أنا لم آخذ نقودك أبداً.
وإذا كنت قد أخذتها يوماً ما، فلأنني كنت بحاجة إليها. أنا بشر وتلزمني النقود. لست حجراً!
- بمقدورك العمل إذا كنت تحتاج النقود.. لا تختلس مني أي شيء فلستَ وحدكَ، عندي سبعة أفراد سواك في عنقي.
- أعرف هذا. وأنت تعرف... فما أن يصيبني الوهن لن يكون بمقدوري العمل، ومثلما تحاسبني الآن من أجل كسرة خبز فسوف تقف بين يدي الله ليحاسبك عن هذا.
- الوهن..! يا لتفاهتك، لا تغالط نفسك.. فأنت تهرب من هذا العمل.
- أي عمل تقصد؟ وهل تسمي هذا عملاً؟ إنه ليس عملاً، كما أن تربيتي لم تهيئني لمثل هكذا عمل.
إنك مخطئ بقولك هذا سيرابيون كوسمج، فعملك عمل محترم وقيم. -
- عملك في مركز الولاية؟ تحلق وتسرح شعر نبلاء وحتى جنرالات وأولئك لا يستهينون بصنعتك.
أستطيع أن أحدثكم عن أولئك الجنرالات إن شئتم. وشرع معاون الطبيب بالحديث.
وفقاً لرأينا الطبي، نحن نعرف طبّك.. ثم، من أذن لك بالسؤال؟ فأنت كدت تُشَرِح النجار السكير بدلاً من جثة ميت آخر في العام الماضي، كدت تشق بطنه لولا أنه أفاق في الوقت المناسب.
ثم ألستَ من قام بخلط زيت الخروع بزيت القِنَب؟
-هذا جائز في الطب.
ومن تسبب بموت مالاينا؟ أعطيتها مسهلاً ثم قابضاً. ثم مسهلاً. فلم تتحمل ذلك.
إنك لا تعالج بشراً وإنما كلاب.
مالاينا.. في السماء.
قال كوزمايكورف.
إنها في السماء ولسنا بصدد الحديث عنها الآن.. تكلم..
هل أعطيت النقود لألينا؟
الينا؟ فلتخجل على الأقل من وجود الراهب والجندرمة. -
والآن تكلم.. أنت من أخذ النقود أم لا؟
انسل العمدة من خلف الطاولة وأشعل عود الثقاب متكئاً على مرفقهِ وقدمهُ باحترام إلى غليون الجندرمه.
أف.. أف.. قال الجندرمة متكبراً.
ونهض عن المنضدة مدخناً غليونه واقترب من سيرابيون رامقاً اياه بشزر، وراح يصرخ به بحده:
من مثلك؟ ما أنت؟ لم أنت هكذا؟ ها؟ ما معنى هذا؟ لما لا تجيب؟ أيها العاقّ؟
تسرق أموال الآخرين؟ وتصمت: أجب.. تكلم! أجب!
إذاً..
تصمت!
لِمَ أنت متكتم! ليكن. فأنا لا أهاب كما تعرف، فأنت لست سوى أحمق!
إذا كان أبي يريد تمزيقي فأنا مستعد.. فليقتلني.
اصمت! لا تتكلم! فأنا أفهمك..! أنت لص؟ لا مثيل لك. فلتصمت!
ألا ترى أمام مَن أنت ماثل؟ لا تجادل!
يجب أن تنال عقابك..
تحدث الخوري متنهداً، وإذا كنتم غير راغبين في مسامحته فلا مناصَ من جلده.
أظن ذلك.
أصبت.. قال ميخايلو مهدداً الجميع بصوتهِ المنخفض.
سأجلدك.
صاح كوزمايكورف وإنسَلَّ من خلف المنضدة متضرجاً.
كما تشاء.. ليكن.. فلتمزقني أنا مستعد.
أطلَّ الحشد من الشباك وتجمهر المرضى لدى الباب ومدَّوا أعناقهم وحتى الفلاحة ذات الضلع المكسور اطلت برأسها.
إستلق!
قال كوزمايكورف.
خلع سيرابيون سترته، وصلى واستلقى بخضوع.
فلتمزقني.
قال سيرابيون.
سحب كوزمايكورف سوطاً ورنا إلى الحشد لبعض الوقت، كما لو أنه ينتظر معاضدة أحدٍ ما.. ثم بدأ
واحد.. اثنان.. ثلاثة ..
راح ميخايلو يعد بصوت منخفض.
ثمانية.. تسعة!
فيما وقف الخوري جانباً.. وغض بصره متصفحاً سجلاً.
عشرون.. إحدى وعشرون!
يكفي؟
قال كوزمايكورف.
ليس بعد.. همس الجندرمة فارتوناتف. ليس بعد! ليس بعد! إنه يستحق ذلك.
برأيي.. فهو يستحق المزيد!
قال الخوري مشيحاً نظره عن السجل.
حتى لو أنه صأصاً؟
قال الحشد مستغرباً.
انفضَّ الحشدُ ودخلت زوجة كوزمايكورف الغرفة مقرقعة بتنورتها المنشأة.
كوزما!
قالت موجهةً حديثها لزوجها.
ما قولك أني وجدت نقودك في جيبك؟
أليست هي تلك كالتي كنت تبحث عنها منذ قليل؟
إنها هي بالفعل.. انهض يا سيرابيون!
وجدنا النقود، أنا وضعتها بالأمس في الجيب ونسيت..
- ليس بعد!...
غمغم فارتوناتف..
أصبت! إنه لا يستحق ذلك!
وجدنا النقود! انهض بسرعة!
نهض سيرابيون. ارتدى سترته وجلس إلى الطاولة.
تواصل الصمت.
ارتبك الخوري، ونفخ في منديلهِ.
سامحني!
همهم كوزمايكورف متوجهاً إلى ابنه.
لستَ أنت.. إنه الشيطان.. وأنت تعرفه.. لقد عثروا عليها! سامحني.
لا بأس عليك.. فهي ليست المرة الأولى.. لا تقلق، وأنا دوماً على استعداد لتقبل كل ألم.
شمخ بأنفه الأزرق إلى الأعلى وخرج من المنزل كأنه بطل. وظل الجندرمة فارتوناتف يجوب الفناء مُحمَّر الوجه لوقتٍ طويل محملقاً عينيه وهو يقول:
ليس بعد.. إنه يستحق ذلك.
اضافةتعليق
التعليقات