صداع حاد ينبعث من صدغي كما لو أن آلة حديدية ضاغطة تحكم القبض على الجمجمة، يترتب الصداع تباعاً ثم يسير ببطئ نحو المحجرين بينما العين تركز ناظرها على المتحدث أمامي وهو يصف إلى ماستؤول إليه الأحوال لو أنني استمعت واخترت الإنجاز العظيم الذي يتكلمون عنه وبَصمت بابهامي هذه المرة مع الكثير من الوعود أن هذا العام لن يلحق أخواته السابقات، أتساءل كثيراً إلى أين وصلنا وماذا زرعنا لنحصد كل هذا الخراب، أو ربما علينا تغيير صيغة السؤال هذه المرة.
مادمنا نجني هذه الكوارث فما طبيعة الشرور التي زرعناها؟
ربما كان يجب أن أسرد حال مجتمع عام لا يختص بدولة معينة يرشد القارئ على ثقافة دينية تغير من توجه خاطئ فتنير القلب نحو عالم الملكوت، لكن ينتابني العجز عند ذكر بلادي أو وضعها في مثال.
لأننا غالباً مانتباها بأرض الحضارات، العراق وهو كذلك فعلا ولكن هذا الوصف في طياته إهانة كبيرة ونحن نبرهن أننا الأقدم إذ نحن أصحاب الخبرة الأكبر من كل من جاور هذه الحضارة وهذا مايقوله المنطق فالخبرات تراكمية، لكن ما الذي تراكم لدينا، في واقع الحال دون سابق إنذار وجدنا أننا نتغنى بسراب طاغٍ وأرض قاحلة تتقيأ أغلب من فيها ولا تطيق وجودهم فوقها فيكون وقع أقدامهم كالمحراث الصدأ الذي لا فائدة منه سوى أنه منظر يضر بالبصر ويجرح العين من فجاجته.
مهزلة مجتمعية
زميلي في الدراسة يمجد قاتلاً لأنه ببساطة وفر له عمل جيد في مكان جيد وهو مازال طالباً، الأمر الأسوء زميلتي تروج لسارق لأنه يمقت ويعادي من تكره هي ومن تراهم في نظرها لا يستحقون الصعود، جاري ومن أراه من بعض ذوي القربى سيسلمون إبهامهم لغدار معروف قتل كل أمل في الحرية فهو يتبع مجموعة خاصة، ومايثير السخرية أنه قد سلم دون سلام وهو يعلم بذلك لكن ثقافة القطيع طاغية عنده فمن المعيب أن يخرج خارج المجموعة أو ينكر سياسة القطيع.
ويطلق مصطلح سياسة القطيع على سلوك الأفراد في الجماعة عندما يقومون بالتصرف ضمن سلوكهم دون كثير من التفكير، فعندما يسلم الفرد بأن الجماعة هي طوق نجاته وهي والجهة التي تتحمل عنه المسؤولية يبحث عن قيادة حتى وإن كانت لا منطقية، تعفيه من المسؤولية، فيضعف إحساسه بمسؤوليته الفردية.
ومع الوقت يعتاد «التبعية» غير المبررة لأي سلطة بديلة تأخذ على عاتقها مسؤولية القرار، وكلما تعمقت التبعية والخضوع يصبح الفرد في الجماعة كالمدمن بحاجة إلى التوجيه الإجباري، فبعض الناس لا يتمتع بطبيعة تكفي لتخوله اتخاذ مواقف مستقلة أو ليفهم لماذا يرغم نفسه على القيام بما يقوم به.
مما يساعد مستقبلا في إنشاء جيل لا يستطيع استغلال أي مساحة حتى ولو كانت ضئيلة من عقله، بل ستصبح تعتمد على عقول آخرين في تحديد أفكارهم وتوجهاتهم تجاه مجمل قضاياهم،
وبالرغم من التعليم وتطور الوعي العام تبقى هذه العقلية راسخة عند الفرد المنتمي للجماعة الخاضعة لقيادة عادة ما تكون عبثية، فالناس وخاصة المتعلمين قد يرفضون بعض السلوكيات التي يحددها «قائد القطيع» لكنهم في معظم الأحوال لا يجرأون على التصدي لها حتى لا يتهموا بالشذوذ عنها، مما دعم حضور هذه العقلية على الرغم من التعليم والثقافات فقد قادهم المرياع.
أما المرياع هو كبش من الغنم، يعزل عن أمه يوم ولادته، ويوضع مع أنثى حمار غالباً ليرضع منها حتى يعتقد أنها أمه، وبعد أن يكبر يخصى ولا يُجز صوفه وتنمو قرونه فيبدو ضخماً وتُعلق حول عنقه الأجراس الطنانة وتسمى (القرقاع)، فإذا سار المرياع سار القطيع وراءه وكذلك لا يسير المرياع إلا إذا سار الحمار ولا يتجاوزه أبداً، فتصبح المعادلة ببساطة الأغنام خلف المرياع والمرياع يتبع الحمار.
إن بين البشر من هم على شاكلة الغنم لا يحلو لهم السير إلا خلف مرياع ودون أدنى تفكير المهم أنه عندما يسير المرياع يسير القطيع كاملا وراءه ويتبع خطاه معتقداً أنه يسير خلف الخطا الواثقة لزعيمه البطل.
السؤال هل فكرت في من ستعطيه كلمتك وثقتك أم لا؟
تمعن في هذه الكلمات قبل الاختيار، الإمام الحسين (ع) مع الوليد يطالبه بمبايعة يزيد ابن عبد الملك بن مروان، وهو يسأل الحسين (ع): نحن لا نطلب إلا كلمة فلتقل بايعتُ، واذهب بسلام لجموع الفقراء، فلتقلها وانصرف يا ابن رسول الله حقناً للدماء فلتقلها ما أصغرها إن هي إلا كلمة، يقول الشاعر في مضمون رد الإمام (ع): (كبرت الكلمة، وهل البيعة إلا كلمة؟ ما دين المرء سوى كلمة، ما شرف الرجل سوى كلمة ما شرف الله سوى كلمة أتعرف ما معنى الكلمة؟ مفتاح الجنة في كلمة، دخول النار على كلمة، وقضاء الله هو الكلمة، الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور، بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري، الكلمة فرقان ما بين نبي وبغي، بالكلمة تنكشف الغمة، الكلمة نور ودليل تتبعه الأمة، عيسى ما كان سوى كلمة أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين فساروا يهدون العالم، الكلمة زلزلة الظالم، الكلمة حصن الحرية، إن الكلمة مسؤولية، إن الرجل هو الكلمة، شرف الرجل هو الكلمة، شرف الله هو الكلمة).
اضافةتعليق
التعليقات