قصةُ اغتيالٍ وقعت في مسجد الكوفة لأعظم شخصية في الوجود بعد رسول الله صلَّى الله عليه وآله، فِي صبيحة يوم الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 40 للهجرة، تكْشف عَنْ سوء ما يبطنه العدو "الشجرة الملعونة" اتجاه آل الرسول صلى الله عليه وآله، وعن تآمرهم الدؤوب على اغتصاب مَا فضلهم الله تعالى مِنْ مراتب ومقامات شريفة على الأرض، ورؤيا النبي والقِردة ينزون على منبره الشريف خَيرَ شاهِدٍ ومصداق على ذلك.
مُصَابٌ جلل مؤلم اهتز له عرش الرحمن، بكته دمًا السّموات السبع قبل الأرضين، ونعاه جبرائيل بنداء من السماء ب "تهدمت والله أركان الهدى وانفصمت العروة الوثقى".. مصاب مَهيب أدانته جميع الفرق والمِلل والمذاهب والأديان على طول التاريخ.
وقصة اغتيال أمير المؤمنين صلوات الله عليه على يد أشقى الأشقياء من الأولين والآخرين "عاقر ناقة ثمود"، كانت واضحة كوضوح الشمس في رابعةِ النَّهار، كما صرح بها رسول الله صلى الله عليه وآله في عدة مناسبات وبكى على علي وعلى عظم ما سيلاقيه من عدوه "ابن ملجم" لعنه الله.
فقد جاء في خطبته الشريفة في شهر رمضان قائلًا: يا علي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر كأني بك وأنت تصلى لربك وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك.. قال أمير المؤمنين عليه السلام: فقلت: يا رسول الله وذلك في سلامه من ديني؟ فقال صلى الله عليه وآله: في سلامه من دينك ثم قال: يا علي منْ قتلك فقد قتلني، ومنْ أبغضك فقد أبغضني، ومنْ سبك فقد سبني لأنك مني كنفسي، روحك من روحي، وطينتك من طينتي، إن الله تبارك وتعالى خلقني وإياك، واصطفاني وإياك، واختارني للنبوة، واختارك للإمامة، فمنْ أنكر إمامتك، فقد أنكر نبوتي يا علي أنت وصيي، وأبو ولدي وزوج ابنتي، وخليفتي على أمتي في حياتي، وبعد موتي، أمرك أمري ونهيك نهيي، أقسم بالذي بعثني بالنبوة، وجعلني خير البرية، إنك لحجة الله على خلقه وأمينه على سره وخليفته على عباده.1
كما أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه بها لبعض أصحابه المقرّبين وفي عدة مرات وعن اسم قاتله وصفاته وصفات من يتبعه من أعدائه قائلًا: (إذا سرّكم أن تنظروا إلى قاتلي، فانظروا إلى هذا)، قال بعض القوم: أو لا تقتله، أو قال: تقتله؟ فقال: (من أعجب من هذا! تأمروني أن أقتل قاتلي؟).2، وقال أيضًا: لقد خبرني حبيب الله وخيرته من خلقه، وهو الصادق المصدوق عن يومي هذا، وعهد إلي فيه فقال: (يا علي كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس تدعو فلا تجاب وتنصح عن الدين فلا تعان. وقد مال أصحابك، وشنف لك نصحاؤك، وكان الذي معك أشد عليك من عدوك، إذا استنهضتهم صدوا معرضين. وإن استحثثتهم أدبروا نافرين يتمنون فقدك لما يرون من قيامك بأمر الله عزّ وجلّ، وصرفك إياهم عن الدنيا فمنهم من قد حسمت طمعه فهو كاظم على غيظه، ومنهم من قتلت أسرته فهو ثائر متربص بك ريب المنون.. حتى يقتلوك مكرا، أو يرهقوك شرا وسيسمونك بأسماء قد سموني بها، فقالوا: كاهن، وقالوا ساحر، وقالوا كذاب مفتر، فاصبر فإن لك في أسوة).3
وغيرها من الروايات الشريفة التي كشفت عن أصل ونسب مَن يحب أو يبغض عليًا، وجعلتهما "الحب والبغض" هما الميزان والمقياس في طهارة الفراش والولادة عن عدمهما، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله "يا علي من أحبّني وأحَبّك وأحبَّ الأئمة من ولدك فليحمد الله على طيب مولده فإنه لا يحبنا إلَّا مَن طابت ولادته ولا يبغضنا إلَّا مَن خبثت ولادته" 4، وعن الإمام جعفر الصادق عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال" من أحبنا أهل البيت فليحمد الله على أولى النعم، قيل: وما أولى النعم؟ قال: طيب الولادة، لا يُحبّنا إلَّا من طابت ولادته".5
لكن العجب العجاب نجد الإعلام المخالف لا زال يناقش هذه القصة باستحياءٍ وتحفظٍ وتعتيم، رغم وضوحها وإسهابها في البيان، وذلك اتفاقًا وتسالمًا مع روايات أسلافهم الموضوعة التي وضعوها في البلاط الأموي لأجل إخفاء التهمة وإبعادها عن فاعلها الحقيقي معاوية بن أبي سفيان، وربطها باتفاق آخر مُنظّم ومرتب بين قطام بنت الأخضر التيمية وابن ملجم المرادي في مدينة الكُوفة، وأنها هي مَن أيقظته صباحًا وناولته سيفه المسموم بعد ليلة أمضياها في سَمر ومُجون وشربِ نبيذ. وإن كان هذا الاِتفاق صحيحًا إلَّا أنه لم يتم إلَّا باتفاقهما مع معاوية بقرينة ما أشارت إليه رواياتهم "رِوَايَةِ الطَّبَرِي والبَلاذري" المصرحة بحقيقة اغتيال الإمام علي عليه السلام على يد عبد الرحمن بن ملجم المرادي الخارجي، وإن الأمر كان مدبرًا بليل بينهما وبين معاوية بن أبي سفيان ورجالاته معاوية بن حديج وعمر بن العاص.. {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}*6
لقد تصرف الإعلام المخالف بنصب وحقارة وتدليس مطلق مع قصة اغتيال أمير المؤمنين صلوات الله عليه ولم ينصفها، وأعطى لقاتله "عبد الرحمن بن ملجم المرادي الخارجيّ" الشرعية مُدّعيا أنه كان من المصلين الصائمين القائمين الذين يقرؤون القران الكريم، وأما قتله عليًا فقد جاء محبة لله ورسوله وبتأويل واجتهاد وتقدير منه.
ومنهم من جعله قامعًا للفتنة وعده من أفضل أهل الأرض حيث نقل ابن بطوطة رحالة التاريخ عن زيارته لعمان "إن الإباضية في نزوى يترضون عن الشقي اللعين ابن ملجم ويقولون فيه العبد الصالح قامع الفتنة" وهناك من لا يُشرع ويجيز شتمه ولعنه وسبه" 7.
وهناك من قال فيه شعرًا واعتبره من الأتقياء كالشاعر الناصبي عمران بن حطان الخارجي -الذي روى عنه البخاري كثيرًا وعده من كبار العلماء- قائلاً:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا.8
متأثرا بسيرة مَن انتابها الفرح والاستبشار وانشدت الأشعار في مدح ابن ملجم بعد قتله لأمير المؤمنين علي صلوات الله عليه، وسجدت لله شكرا، وأعتقت جمع من عبيدها ومواليها وسمتهم باسم عبد الرحمن تيمننا به وبفعله قائلة:
فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر
ثم قالت مَن قتله فقيل لها رجل من مراد فقالت:
فإن يك نائيا فلقد سقاه نعي ليس في فيه التراب. 9
رغم ما جاءت به بيانات رسول الله صلى الله عليه وآله المستفيضة التي تذم وتحذر الأمة من ابن ملجم ومن طائفته "الخوارج" التي منها ينحدر، ونقلًا عن عائشة قالت "سمعت رسول الله يقول هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة".10.
لكن قلّ مَن يَعتبر
فالحق لابد أن يظهر وإن كره واجتهد المعترضون، {وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَٰطِلُ ۚ إِنَّ ٱلْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا }*11
اضافةتعليق
التعليقات