فدك ليست مجرّد أرضٍ من أراضي الحجاز، بل صفحةٌ من صفحات الوحي، تُجسِّد الصراع بين الحقّ والباطل، وبين الولاية الإلهية والسلطة الدنيوية. تقع فدك على بُعدٍ يقارب مئتين وخمسين كيلومترًا من المدينة المنوّرة، وتضمّنت سبع قرى ضخمة جدًا، وكانت آنذاك من أغنى قرى الجزيرة، تدرّ على أهلها عوائد ضخمة قُدِّرت – كما تذكر كتب التاريخ – بأربعين إلى سبعين ألف دينار من الذهب سنويًا.
وحينما صالح رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهودَ خيبر من غير حربٍ ولا قتال، صارت فدك فيئًا خالصًا له دون المسلمين، لأنّها لم تُفتح بسيف. فأنزل الله تعالى قوله:
﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى...﴾ [الحشر: 7].
فدعا النبيّ (صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها)، وأنحلها فدكًا امتثالًا لأمر الله في قوله:
﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء: 26]،
وقوله: ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ...﴾ [الروم: 38].
وهكذا أصبحت فدك نِحلةً خالصةً من رسول الله لابنته، أي هبةً إلهيةً أقرّها الوحي وشهدت بها الأمة.
و"أقربُ المقرَّبين" لرسول الله (صلى الله عليه وآله) هما فاطمة الزهراء بضعته وروحه التي بين جنبيه، وعليٌّ أمير المؤمنين أخوه ونفسه وحامل لوائه ووصيُّه وخليفته.
إذ كانت الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) وليّةَ الأمر في فدك وتدبيرها في حياة أبيها، تمارس فيها مقامها الشرعي الذي اصْطُفِيت له، كما اصْطُفِي عليٌّ أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لمقامات الولاية والوصاية والوراثة والخلافة منذ يوم الدار، حين أُنذر الأقربون بنبوّة محمد (صلى الله عليه وآله):
﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214].
تحوّلت الأرض إلى اختبارٍ للولاية بعد شهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلم تكن قضية فدك نزاعًا على أرضٍ أو مال، بل كانت امتحانًا للعقيدة. فالإقرار بملكية فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها) لفدك يعني الاعتراف بمقامها الخاص عند الله ورسوله، ويعني بالضرورة الإقرار بحقّ عليٍّ (صلوات الله وسلامه عليه) في الخلافة، لأنّ النور واحد والموقف واحد.
لهذا كان انتزاع فدك من الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) موقفًا سياسيًا عقائديًا أكثر من كونه إجراءً إداريًا. وقد واجهت (صلوات الله وسلامه عليها) ذلك الموقف العصيب بخطبتها الفدكية الخالدة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث أقامت الحجة على القوم بالقرآن والبرهان، قائلةً:
«أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله وراء ظهوركم إذ يقول: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾، وقال: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾؟»
وبيّنت أنّ الأنبياء يورِّثون، وأنّ فدكًا كانت لها نِحلةً (هبةً) في حياة النبيّ، لا ميراثًا فحسب، وأنّ مصادرتها تمثّل مخالفةً صريحةً لكتاب الله وسنّة رسوله، وظلمًا بيِّنًا لأهل بيت الوحي.
وقالت في دعائها المؤلم:
«اللهمّ اشهد أنّهما غصباني فدكًا كما غصباني حقي في الخلافة.»
كما قام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) ولم يسكت، فحاجج الأوّل والثاني وأقام عليهما الحجة الدامغة، قائلًا – بما معناه –:
«لو أتى شاهدان وشهدا على فاطمة، والعياذ بالله، بمنكرٍ من المنكرات، أتصدِّقونهما؟» قالا: نعم. قال: «إذن تكفرون بالله تعالى، لأنه يشهد لها ولأهل بيتها بالطهارة والعصمة في آيات التطهير والمودّة في قرآنه المجيد. فمن يردّ على فاطمة يردّ على الله تعالى، والزهراء مصدَّقة في القول والعمل، وهذا من سمات الولاية والإمامة والحجّية.»
فالأدلّة القرآنية والحديثية متواترة عن النبيّ في شأن فاطمة (عليها السلام).
فانكشفت بفدك حقيقةُ الانحراف عن الولاية الإلهية، إذ لم يكن الخلاف على مالٍ، بل على موقع النور من الأمة. ولم تسكت مدرسةُ أهل البيت وأئمتها المعصومون (صلوات الله وسلامه عليهم) عن بيان مظلومية فاطمة وحقّها المغصوب في فدك، لأنها – كما قال الإمام جعفر الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) – رمزٌ للولاية، فقد ورد عنه قوله:
«إنّ فدكًا لنا، ولكنّ القوم غصبونا إيّاها، وإنّ فدكًا اليوم هي الولاية.»
(الكافي، ج1، ص543)
فصارت فدك في الوجدان الشيعي عنوانًا لمقام الإمامة، ودليلًا على أن الولاية ليست مجرّد سلطةٍ دنيوية، بل عهدٌ إلهيٌّ أُقصي عن موضعه.
ولذلك، حينما سُئل الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) عن سبب ترك أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) المطالبةَ بفدك حين تولّى الخلافة، قال:
«للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله، إذ قال يوم فتح مكة لما باع عقيلٌ داره: وهل ترك لنا عقيل دارًا؟ إنّا أهلُ بيتٍ لا نسترجع ما أُخذ منّا ظلمًا.»
(علل الشرائع، ج1، ص154)
وهكذا ظلّت فدك تنتقل بين أيدي السلاطين والولاة، تُعطى وتُمنع، حتى صارت رمزًا خالدًا للحقّ المسلوب، تنتظر اليومَ الموعود الذي يُعاد فيه إلى أهله. سيأتي الإمام المهديّ المنتظر (صلوات الله وسلامه عليه) بتحقيق العدالة الإلهية على الأرض، وسيعيد الاعتبار لحقوق جدّته الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) المهدورة.
ففدك ليست أرضًا بقدر ما هي ميثاقُ الولاية، و"نحلةُ النبوة" التي كشفت عمق الصراع بين الرسالة والسلطة، وستبقى شاهدًا ناطقًا على أنّ النور لا يُطفأ، وإن غُيِّب وجهُه عن الناس إلى حين.






اضافةتعليق
التعليقات