ذاك هو علي.. إني أراه من بعيد يسير في واديه، ثابت الخطى يمشي ملكا في أبهى قوام، لكنه لا يملك من الدنيا شيئا؛ فلا صفراء تُغريه ولا حمراء تُرديه!.
عجيبٌ أمر هذا الرجل كيف يسير لوحده في هذا الوادي الموحش، بينما الناس كلهم يسيرون في وادٍ آخر أكثر ضجيجاً وأُنساً وعربدة ؟!
لا مجال للتراجع أو التردّد، ولابد لي من حزم أمري والسير في وادي علي.. هكذا أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله.
المهم أن النيّة معقودة ولله الحمد، على اقتفاء أثره والكون في صحبته والسير في واديه، حتى لو أطبقت الوحشة ممرّاته المُقفرة.. مَن يدري؟ ربما أصل إليه إن حالفني الحظ وربما لا.
أنت تقول هذا الكلام سيّدي يابن الشهيدين؟! ليس بعجيب أنْ يسلك علي عليه السلام الوادي الذي ذكرت، فهو القائل: لا تستوحشوا طريق الحق لقلّة سالكيه، لكنّ العجيب هو قولك ياسيدي أنك قد لا تصل!!
فمع ما لك من عظيم الشأن وجميل الصحبة، فأنت مبشّر بالجنة، وحسبُك قول رسول الله فيك: ياعمار تقتلك الفئة الباغية وآخر رزقك من الدنيا ضياح من لبن، فكيف بنا نحن الفقراء في فقرنا، الغارقون في وحل خطايانا، والمُدجَّجون بخيباتنا والمنغمسون في دنيانا.. ماذا نقول ونحن ندّعي وصلا بعلي، ولم نحدِّث حتى أنفسنا بالسير في واديه؟
إنّ واديا يسلكه علي عليه السلام، ليس واديا متوّهما أو من نسج الخيال، بل هو حقيقة قائمة.
وكما أنّ للحقيقة معالم واضحة، كذلك هو وادي علي عليه السلام، فيه محطات واضحة وجليّة، لا يدركها إلّا مَن استصغر دنياه حتى تصبح كأهون ما تكون لناظر.. وهذا مولاه علي يقول في وصفها:
(مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ الْحَيَّةِ، لَيِّنٌ مَسُّهَا، وَالسَّمُّ النَّاقِعُ فِي جَوْفِهَا، يَهْوِي إِلَيْهَا الْغِرُّ الْجَاهِلُ، وَيَحْذَرُهَا ذُو اللُّبِّ الْعَاقِلُ) ( ١)
وقال فيها أيضا:
(أحذروا الدُنيا فإنها غدّارةٌ غرّارةُ خدُوعٌ مُعطيَة مَنوعٌ، مُلبسة نَزوعٌ لا يَدُومُ رَخاؤها، ولا ينقضي عَناؤها ولا يركُدُ بَلاؤهَا).(٢)
وادي علي عليه السلام مُترعة شعابه بكل صنوف الخير، تتسع لكل محطات الفضيلة والفلاح، لكنْ لا يتسع المقال لذكرها جميعا، إلَّا أنّ المحطة الأبرز في وادي علي عليه السلام هي محطة العبوديّة لله.
مَن أول من صلّى مع النبي؟ سؤال لا يحتمل جوابه الترديد هو علي بلا أدنى ريب، دعك من تقسيمات المفلسين وقولهم غلمان وولدان ورجال وو.. لأنّ الحقيقة واحدة لا تقبل القسمة وهي: إنّ عليّا كان أول عابد صلّى مع النبي، فيقول عليه السلام:
(اللهم لا أعرف أنّ عبدا لك من هذه الأمة عبَدَك قبلي غير نبيّك ثلاث مرات، ولقد صلّيتُ قبل أن يصلّي الناس سبعا.)(٣)
ومنه عن حبة العرني قال سمعت عليّا عليه السلام يقول: (أنا أول من صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وآله).
لقد جمع علي عليه السلام شرف الانتماء للنبي من كل أطرافه وفي كل مراحله.. تربّى في حجره صغيرا فأصبح ربيبا له وابنا..
فيقول عليه السلام والفخر يتفجّر من كل جوانبه:
(وقد علمتم موضعي من رسول الله (ص) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمُّني الى صدره.. وكان يمضغُ الشيء ثُمَّ يُلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قول، ولا خطلة في فعل.. ولقد كنت أتَّبعه اتباع الفصيل أثر أمِّه، يرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله (ص) وخديجة وأنا ثالثهما).(٤)
وعندما استوى عوده آخاه رسول الله (ص) مرَّتين، مرة عندما آخى بين المهاجرين، وأخرى عندما آخى بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة، وقال لعليٍّ في كلِّ واحدة منها: «أنت أخي في الدنيا والآخرة»(٥)
وبعد أن أتم له البنّوة والأخوّة أكرمه بالأبوّة، فقال فيه صلى الله عليه وآله: أنا وعلي أبَوَا هذه الأمة.(٦)
وكفى بذلك فخرا. فهل رأيتم انسانا تُوِّج بطهارة النسب الشريف حتى أصبحت نفسه نفس رسول الله صلى الله عليه وآله، وإذ هي تشابهها بكل المزايا والخصائص ما خلا النبوّة؟
ذاك هو علي! ثم يأتي أناس بعد سنين لا يفقهون شيئا ليتساءلوا: وهل كان عليٌّ يصلّي؟!
أليست شهادته في المحراب شهادة فوق الشبهات؟ ما لكم كيف تحكمون؟!
أوَ يقال في حقه: وهل كان عليٌّ يصلي؟!
وهو المقتول ظلما في شهر الله وفي بيت من بيوت الله وفي أشرف ليلة من ليالي القدر الإلهية!!
عجبا للحقائق كيف تُقلب وتُغيّب وترتدي غير ثوبها.. بل وتُلّبس على الأمة بفعل أبالسة الشر، ودهاقنة السياسة الأموية البغيضة، الموغلة بالأكاذيب والزيف والافتراء.
إنّ عضد النبي وخليفته ووصيّه وحافظ سرّه لا يضرّه قول المرجفين، ولا تزيده كثرة المتزلّفين، ولا توحشه فرقة الناس عنه بمقدار أنملة واحدة، لأنه وبكل بساطة عابد قد ذاب حبّاً في معبوده وهو القائل: (والله لو كُشف لي الغطاء لما ازددت يقينا).
وما أدرى اهل الشام بعبادة علي عليه السلام؟! وقد تشبّعت أفئدتهم بمخافة السلطان، وامتلأت عقولهم بأضاليل وأباطيل ساستهم وأمرائهم؛ الذين ما انفكّوا يوهمون الناس ويروّجون الاشاعات حول شخصية علي عليه السلام حتى ينفّروا الناس منه فيسقط عن عيونهم.. ولكن هيهات أن تطفىء منارة الوصي ويخفت نورها.. ومهما تعاضد أهل الباطل فإن نور علي يزداد ألقا واتساعا..
وبفضل شهادته هذه تساقطت كل الأقنعة التي كان الأمويّون يتخفّون خلفها، فهم لم يعرفوا ماهية العبادة الحقيقية في حياتهم قط.. لأنهم لبسوا الإسلام لبس الفرو مقلوبا.
أما عبادة علي عليه السلام فهي ليست تفرّغا في صومعة الذات، وليست انكفاءً في زوايا مسجد مهجور، بل هي عبادة تستبطن الإنسانية انطلاقا من تقدير الذات وتشخيص مصلحة الأمة.. إنها عبادة تجمع بين البكاء والشوق واللهفة لوصل المعبود في جوف الليل، وبين السعي الحثيث لقضاء الحوائج ومداراة الفقراء والمساكين في وضح النهار، لقد عظم المعبود عزّوجلّ في نفسه، فارتقى بعبادته إلى أعلى درجات اليقين.. إنه الارتقاء السامي بأعظم تجلّياته.
يحدثنا أحد الرواة حيث قال: (بتُّ ليلة عند أمير المؤمنين عليه السلام فكان يصلّي الليل كلّه ويخرج ساعة بعد ساعة، فينظر إلى السماء ويتلو القرآن فمرّ بي بعد هدوء من الليل فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟» قلت: بل رامق أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين. قال: يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة أولئك الذين اتخذوا الأرض بساطاً وترابها فراشاً وماءها طيباً والقرآن دثاراً والدعاء شعاراً وقرضوا من الدنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم...».(٧)
هكذا كان عليّ عليه السلام في شدة تعلّقه بالله.. ثم يأتي بعد ذلك من تسوّل له نفسه بالسؤال عن صلاة علي وعبادته، متأثرا بالدعايات الأموية المغرضة.
ما كان حريّا بأهل الشام بعد سماعهم نبأ شهادته في المسجد، أن يقولوا قولتهم المشؤومة: وهل كان عليٌّ يصلي؟.. بل كان حريا بهم أن يعودوا لأنفسهم فيسألوها: كم كنا ياترى في غفلة وضلال؟ وكم كنا مخدوعين بإعلام وأبواق سلطاتنا الجائرة؟ وكم كنا مغفّلين إذ صدّقنا أراجيفهم وضلالاتهم؟
سيدي: إن كان أهل الشام أضاعوا بوصلة الدين، فأصبحوا هائمين على وجوههم في صحراء التيه.. ولم يعرفوا قدْرَك ولم يدركوا بعد سقوطهم ضحايا في شِباك إعلامهم العنكبوتي.. دعنا نميط اللثام عن وجه الحقيقة التي غُيّبت لسنواتٍ وسنوات.. ففي غيابك ياعلي تداعى الذؤبان، وماجت السفن، واكفهرَّ وجه السماء وتجهَّم كقِطَع الليل المظلم، وشُلّت الابتسامة، وٱرتحل ما بقي من حلم بالعدالة كبقايا رماد.
فدعني _ ياسيدي _ أطبع قُبلة على جبينك المكرّم؛ الذي ما عرف يوما السجود لصنم.
دعني أقبّل جرحك سيدي، فجرحك غائر ونزفك شديد..
ها هي ذي كلماتنا ونبضاتنا تبعثرت وتناثرت، وكأنك يامولاي من كان يجعلها تنتظم وتستقيم.
دعني أقبّل هامتك سيدي.. الهامة التي شطرها سيف ابن ملجم اللعين، وهي تؤدي الشكر سجودا لرب العالمين.
دعني أحتضنك أبتاه، كما لم احتضن أبي الحقيقي حين أسلم الروح لبارئها، مُمدّداً على رصيف شوارع طهران، كغريبٍ ليس له أهل ولا خُلَّان.
دعنا نغتسل في حياض محبّتك _ سيدي _ وننتقع من عذب مائك فقد طال الصَّدى.. خُذ بأيدينا كعمّار لتعبر بنا مسافات الوصل إلى حيث النور والضياء والهدى.
اليوم _ أيها الأحبّة _ نعيش مع علي في مفترق طرق، فمن منّا سيرافق عليّا ومن منّا سيتخلّف عنه؟
إنه السؤال الكوني الذي لا زال ينتظر الجواب.
دعونا إذن نسير في واديه، ونصدح بتراتيل الشوق اليه والكون معه، فيعلو في الآفاق نداء: هنا يُكشف سر الوصول بغيث السماء.
اضافةتعليق
التعليقات