بينما كانتْ الجدة جالسة قرب الشُرفة، مُنشغلةٌ بتسريحِ شعرها، وعقد ضفائرها الطويلتين الجميلتين، إذ بحفيدتها تُقبِل إليها، وبعد أَنْ ألقت السلام والتحية، جَلستْ أمامها هُنيئةً، وهي تَبتسم بوجهِها تارةً، وتتأملها بترقبٍ تارةً أُخرى!
)فلطالما كان يفوح من منطقها الطيب، وتُضفي بالبهجةِ على مَن مِنها يقترب، كانت كالنسمةِ ما أَنْ تُلامس قلباً مُكدراً إلا لَطفتهُ وأزاحتْ عنه كل كَرب).
وهكذا فقد عَلمتْ الجدةَ إنْ شيئاً ما قد شَغلَ ذِهنُ حفيدتها الوقاد، مِمّا جعلَ حالها على هذا المِنوال:؛ فسبقتها بالسؤال:
- قولي ماذا يُشغلكِ يا رُوحُ جدتكِ؟
وإذ بها تَنهض مسرعة لتجلسَ بين يَديها، قائلةً:
- جدتي إن في داخلي أمل بطولِ جديلتيك هاتين، وفيﱢ خوف أن أطوي صفحاتَ عمري بيضاءِ كبياضهما، فلا أرسم لغايتي حدود، وأرحل من دون أن أُبقي إلى ذاتي وجود!
تبسمتْ الجدة في وجهها، قائلة:
- أعلمي يا بُنيتي إن في الفكر يُرى آخر العمل؛ فاصنعي الوعي في داخلكِ أولاً؛ لِتَري كيف إنَ صفحاتَ عُمركِ ستُملأ بالإنجاز لا الأماني، وبالواقع الطيب لا الخيال السقيم.
- لكن الواقع صعبٌ وقاسٍ، يا جدتي؟
- أَعلمُ ذلك بُنيتي، ولابد أن يكون كذلك، وإلا كيف يمتاز المُثابر من غيره؟ ومَن يَطلب العُلا ممن يُريد العلو فقط بلا جهد واجتهاد؟ فعدم رضانا عن الواقع لأنه مِن صناعة مَن يَسعون في الأرض علواً واستكباراً؛ هي خير فرصة، وأفضل نقطة انطلاق، فنحن وهم بَشر أعطانا الله تعالى كل المؤهلات على حد سواء، لذا بأيدينا أن نوجد ما يُصحح ما غيروه وصنعوه من فساد، ونكون مثال لعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وفيها عاملين مصلحين.
لذا لا تبقي حبيسة الواقع الممقوت؛ فترين أن لا قيمة لأحلامكِ أو أهدافكِ، وإذا بكِ تتقوقعين حول ذاتكِ بلا حراك! ولا تُحلقي بعالمِ الخيال دون أن تتوقعي صعوبة الطريق، ووجود عثرات أثناء المسير، بل وحتى احتمالية خفاء الثمار!
- ماذا تَعنين يا جدتي بخفاءِ الثمار؟
- أعني إنها ليستْ دائماً تكون ثمار مادية ملموسة آنية، بل قد تكون ثمار معنوية/ نورانية - وهي الأصل على كل حال- فكلما كان أَمَلُكِ نابعا من بذرة خير وصلاح طيبة، تريدين غرسها في هذه المعمورة، وفي قلوب ساكنيها؛ فإن علامة تحققها هي استشعاركِ لوجود أنوار ثمارها في داخلكِ بدءًا، ويقين رؤيتها ولو بعد أمد طويل.
أما الآمال التي تريكِ المسار خاليا من الأنوار، وتريد منكِ فقط سرعة قطف الثمار؛ لا تعولي عليها، ولا تسيري وراءها، بل ابحثي عن غيرها، فمن بحث وَجد، ومن جَد وصل.
- أتدرين يا حلوتي إنني بِعُمركِ كنتُ في أحلامي وطموحاتي، وأمانيَّ وأهدافي أقف على القمة، مع إني في بعض الأوقات كنتُ أتصور أنني صغيرة عليها، ومقاسها كبير عليّ، وقد لا أكون أهلاً، ولستُ مستحقة لها..! ولكن دائما كان هناك شيء يربطني بها، يقول لي: ستكون من نصيبكِ، ستتمكنين من فعلها، انجازها، تحقيقها، أتعلمين لماذا؟
- لماذا يا جدتي؟
- لأنها كانتْ مرتبطة بصوت في داخلي، أسمعه يتردد مع نبضات قلبي في كل آن، ذاك الذي كان يَصلني من أفق السماء، إنه قول ربنا: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا}(طه:112)، ولأنني كنتُ ولا زلتُ أؤمن أن ما يأتي من السماء صوت حق لا يَكذب ابداً، لذا كنتُ أتبعه، أستمد منه طاقة الاستمرار..
- وتيقني يا بُنيتي! إننا في نهاية كل أمر نبلغه، سندرك إننا لا نَصل فقط بتخطيطنا وهمتنا لنترك طيب هنا أو نصنع أثر هناك بل الأصل هو عون وتوفيق وتسديد الله تعالى لنا وخالق كل شيء فينا وحولنا.
وبينما أنهت الجدة كلماتها هذه، صمتت لتعود بذاكرتها إلى الوراء لتتراءى أمامها كيف كانتْ في كل مرة رددت بها دعاء إمامها الحسين (عليه السلام): "يا رب.. وأستعين بكَ ضعيفًا"، تنزل على قلبها قوة تُعينها، وتَكون لها عند كل حَيرة نور تُبصر به ما هو الصواب.
وإذا بحفيدتها تقطع عليها صمتها، بِقُبلةٍ واحدة على يديها الدافئتين وأخرى على جبينها المُنير مرددة: "يا معين الضعفاء...أعني"، فنظرتْ إليها بثغرٍ باسم كُله أمل وبهجة، ومن عينيها دمعات كاللؤلؤ بدأت تتساقط، فقد تأكدتْ إن مناجاتها وكلماتها قد وصلتْ لقلب حفيدتها الصغيرة، وستكون لها خير زاد ومُعين، لتسموا بحياة لن تخلو من أنوار ذكر ربها العلي الأعلى، وبإذنه بذلك ستصل لكل ما إليه تطمح وتسعى..
اضافةتعليق
التعليقات