(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون) (النّحل/ 90). الإسلام هدفه، كما الأديان السّماويّة، إقامة العدل الذي يحتاج إليه كلّ البشر، والذي ينبغي أن يدخل إلى كلّ السّاحات، وخصوصاً ساحة التّنشئة الأولى، التي يُبنى فيها الإنسان ليصبح على ما يصبح عليه في المستقبل.
لا يختلف الناس في أن العدل كله فضيلة، والجور رذيلة، وأنه فريضة وليس نافلة، إلا أن بعض الناس لا يدرك مفهوم العدل في الأسرة، وبالتحديد بين الزوجات، فيفهمون منه أنه العطاء المتساوي، وإن اختلفت المقتضيات، وأنه مطلوب في ما يلزم وما لا يلزم، بينما هو في الحقيقة «إعطاء كل حقه من غير وكس ولا شطط»، فإن نقص فهو جور، وإن زاد في العطاء فهو فضل، أما ذلك المفهوم الشائع فيجعله أقرب إلى الجور منه إلى العدل.
يتساءل كثيرون عن دوافع العقوق لدى الأبناء، وما إذا كانت لها بذور دفينة نتيجة التعامل السيئ من قبل الوالدين في الصفر. فهل لغياب العدل في معاملة الوالدين تجاه أبنائهم نتائج سلبية تظهر فيما بينهم؟ وكيف تكون ردة فعل الأبناء على ما يقع عليهم من جور وظلم من قبل آبائهم؟ وما الطرق التي تحقق الاستقرار والسعادة في التعامل مع الأبناء؟
العدل قامت عليه السماوات والأرض، فهو مطلوب في كل شيء، وعكسه الجور والظلم، هذا قد يسبب التميز بين الإخوة تحاسد وتباغض، وقد يمتد الحقد بينهم حتى بعد الكبَر، وهذه مصيبة كبيرة.
وربما سبب الظلم خروج الابن من جو الأسرة الجائر والبحث عن صحبة تستمع له، فتصبح أقوالهم وأفعالهم مقدمة على البيت وأهله.
آلية العدل
قد يميل القلب نحو بعض الأبناء دون بعض، لكن هذا لا ينبغي أن يظهر على السطح، فيتعامل معهم بالعدل في كل شيء، ابتداء من القُبلة والابتسامة وحتى العطية المالية وما دونها وما فوقها، أن العدل لا يعني المساواة؛ فلا بأس أن يُعطى الكبير مبلغًا ماليا أكبر ليصرفه على ملابسه وسيارته وجواله مثلاً، لأن الصغير لا يحتاج كل هذا، وقد تحتاج البنت للتجهيز لحضور زواج من الملابس ما لا يحتاجه أخوها، وأن مما لا تصح فيه المساواة الإنجاز والنجاح كأن يجعل الأب لمن يحضر كذا، أو من يحفظ كذا، فهذا لا يساوى فيه بين من نفذ ومن لم ينفذ، ومثله ما يعطيه الأب لابنه حين يحفظ القرآن مثلا أو حين يخدم أمه تحفيزا لباقي إخوته، والجور هنا يقع حينما يعطى أحدهم الجائزة التي يرضاها، وإذا فاز بها الآخر أُعطي جائزة أقل من جائزة أخيه.
تحقيق العدل
إن الأب باعتباره رب الأسرة، والمدير العام لها، فعليه أن يوطن نفسه على ذلك منذ بداية زواجه.
وإذا أردنا أن نطبق العدل والإنصاف في أسرنا، فيجب أن نلتزم ما أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم به تجاه زوجاتنا وأبنائنا وبناتنا، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن أهمها أن نؤتي كل ذي حق حقه، فالزوجة لها حقها ووقتها، وكل ولد من البنين له حقه في التعليم والمشاركة في الاهتمامات، وكل واحدة من البنات لها حقها في الإرشاد والتوجيه والتشجيع والدلال، وأهم بند في تطبيق العدل في الأسرة وهو إعطاء كل ذي حق حقه، ثم الالتزام بالخلق الحسن في الأسرة، وخاصة خلق الرحمة والحوار وحسن المخاطبة والتودد والحلم والعفو والتسامح وغيرها من الأخلاق النبوية التي علمنا إياها النبي (ص)، لأنها تعتبر من أهم الضمانات لاستمرار الحياة الأسرية على نهج النبوة وبما يتفق مع الواقع.
العدل والإنصاف في المنهج الأسري أمر حتمي ومطلب شرعي، وأمر من الله أولاً وأخيراً، ولا يمكن أن نحقق هذا العدل في حياتنا الأسرية إلا بإتباع منهج رسولنا وحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وآله وسلم، والمقصود من العدل بأنه العدل في المعاملة، والعدل في القسمة، والعدل في المبيت والعدل في النفقة بين الأولاد، والعدل في الحقوق الزوجية كلها حتى الابتسامة في الوجه والكلمة الطيبة باللسان، كلها تحتاج إلى عدل، مؤكداً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر أصحابه بالعدل في الأمور، وعدم تغليب جانب على حساب آخر، وإنما يرشدهم إلى الموازنة وإعطاء كل ذي حق حقه، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف".
العلاقات الأسرية عدل ورحمة
إنَّ العلاقات داخل الأسرة محكومة بطبيعة عفويّة تلقائيّة، علاقة غير رسميّة، علاقة تحكمها مسبقاً المقبوليّة والخضوع وخفض الجناح وعدم الرّغبة بالتمرّد، وما إلى هنالك من احترام سلطة الأهل من قبل الأولاد، أو احترام موقعيّة الزّوج بالنّسبة إلى الزّوجة، أو الزّوجة بالنّسبة إلى الزّوج، وهكذا. لهذا، يجب أن يحضر العدل بقوّة في كلّ تفاصيل جوّ البيت، وأن ينساب طبيعيّاً، ويجب أن يعي أصحاب هذه السّلطة الأمر جيّداً، لأنّ السّلطة خطرة، فكيف إذا كانت على أناسٍ أنت تنفق عليهم، ولا مجال للاعتراض، فيصبح حال أفراد البيت حال من لا يجد عليك ناصراً إلا الله. لهذا، مطلوب أن يشيع في الأسرة مناخ العدل، لأنّه يستحيل أن نُدخل القضاء والمحاكم والقوانين لتفصل بين الزّوج والزّوجة، أو بين الأب وأولاده، وبين الأولاد وأمّهم، وهكذا، كما يحصل الآن في المجتمعات الغربيّة، حيث باتت ساحة الأسرة كساحة المصنع أو المعمل أو المؤسّسات، بلا روح، والقوانين هي السّائدة فقط.
والبداية هي بالعلاقة الزّوجيّة، حيث إنّ هذه العلاقة، إن تحقّق فيها العدل، فإنّنا نستغني عن كثيرٍ من المطالبة بالقوانين لرفع الغبن عن الزّوجات، لأنّ الأمور لن تصل إلى هذا الحدّ. وعظمة الإسلام، أنّه أضاف إلى شروط العدل خلطةً أخرى، فهو جعل العدل في العلاقة الزّوجيّة ممزوجاً بالمودّة والرّحمة والمعروف والسّكن، فالزّوج الّذي يخاف الله ويخشى ألا يكون عادلاً، لن يغشّ زوجته، ولن يبخل عليها أو يقسو، وأيضاً لن يعنّفها. لا وجود للعنف في قاموس البيت المؤمن، لماذا؟ لأنّه بيت تحكمه الآية: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الرّوم/ 21) ، وكذلك الأمر بالنّسبة إلى الزّوجة، فهي إن قدّرت ظروف زوجها، وكانت عادلةً في الحكم على تصرّفاته، وفي تقدير حاجاته وتفهّمها، فإنّ الكثير من المشاكل ستزول ولن تستمر.
قبل أن تفتّشوا عن القوانين الجامدة بموادّها المتشعّبة، فتّشوا عن العدل، ربّوا أولادكم عليه، اِجعلوه البوصلة لضبط كلّ مشاكل العلاقة في الأسرة. إنّ السّلطة الأبويّة أو الذّكوريّة في مجتمعنا، لا تزال، للأسف، تُمارس بكثير من التعنّت.. فعندما يتعلّق الأمر بحقوق الرّجل، تصبح الأمور على المسطرة وبالميزان الدّقيق، وعندما يتعلّق الأمر بحقوق المرأة، فإنَّ الموضوع يتمّ غضّ النّظر عنه، فأين العدل في أن تعتبر وقت راحتك مقدّساً، ووقت راحتها ليس كذلك؟ أن تعتبر أنّ الطّريقة الّتي تفكّر فيها أنت هي التي يجب أن تحكم، ولا تستمع إلى من يشاركك هذه الحياة؟ فعدم أخذ الرّأي هو أيضاً ظلم، وعدم أخذ رغبات الآخر الّذي يعيش معك بعين الاعتبار، هو الظّلم بعينه.. وفي هذا المجال، ندعو الزّوج إلى النّظر بكلّ مسؤوليّة إلى شريكة حياته الّتي أفنت حياتها في سبيل تأمين الحياة الكريمة له ولأولاده، وعليه الالتفات إلى حفظها من بعده، كي لا تبقى عالةً على أولادها، وخصوصاً أنّها هي من ساعدته على تأمين ظروف الإنتاج.
العدل بين الأولاد
والحديث عن العدل في البيت أيضاً، يأخذنا إلى الحديث عن العدل مع الأولاد. وعظمة الإسلام في هذا الموضوع، أنّه لاحظ العدل في أبسط الأمور، بدءاً من النّظرة، وصولاً إلى العطاء والهديّة، إضافةً إلى الرّعاية، والاهتمام، والحبّ، والتّشجيع، والمكافأة، وإدخال الفرح والسّرور، وتبادل الحديث، وحتّى النّظرة والابتسام، وقد كثُرت الأحاديث في ذلك، ففي الحديث عن رسول الله (ص): «إنَّ الله يحبّ أن تعدلوا بين أولادكم، كما يحبّ أن تعدلوا مع أنفسكم». ولذلك، عندما أبصر رسول الله (ص) رجلاً له ولدان قبّل أحدهما وترك الآخر، قال له رسول الله (ص): «هل واسيت بينهما؟»، أي هل ساويت؟ وفي الحديث أيضاً: «اعدلوا بين أولادكم في النُّحْل (أي العطاء)، كما تحبّون أن يعدلوا بينكم في البرّ واللّطف».
لقد كان رسول الله قاطعاً وحاسماً في رفضه التّمييز بين الأولاد، وكان يرى في التّمييز إخلالاً بكيان الأسرة وتماسكها وترابطها، فالولد الّذي يشعر بالغبن داخل الأسرة من أبيه أو أمّه، سيتحوَّل عنده هذا الشّعور إلى حقدٍ دفينٍ تجاه من عليه واجب احترامه وتقديره والإحسان إليه، وعلى إخوته الّذين يراهم أخذوا حقّاً له، فمن الجور أن تعطي بغير عدل.
ولا يمكن أن نتحدّث عن عدلٍ داخل الأسرة، إلا ونتحدّث عن العدل المطلوب بين الأولاد الذّكور والإناث. وإنَّه بحمد الله، ونتيجة الوعي، صارت مظاهر التذمّر من أن يرزق المرء بالبنت أقلّ من السّابق، ونريدها أن تُمحى نهائيّاً، فالله يرزقنا البنين كما البنات، وآن الأوان لأن نخلّف مظاهر التّمييز بين الذّكر والأنثى وراءنا.
وهنا، ندعو الأهل إلى إدخال مستقبل الفتاة في الحساب، ولا سيّما على مستوى التّعليم والعمل وتأمين حياتها، كما ندعوهم إلى عدم التدخّل في التّقسيم الشّرعيّ الدّيني للإرث، الّذي يراعي حقوق الذّكر والأنثى. وفي حال أرادوا أن يتدخّلوا، فلا بأس، ولكن ليتدخّلوا بالعدل ولحساب البنت، ليزيدوا من نصيبها وليس العكس، وخصوصاً أنّ الجميع بات يدرك، وبالتّجربة، أنّ البنت هي الّتي تحفظ أهلها، وغالباً أكثر من الابن، وتضحّي لأجل ذلك، وتنفق عليهم..
علماً أنّ الإسلام رفع من مكانة البنت، عندما أعاد إليها إنسانيّتها المفقودة، وأشار إلى قدراتها وإمكاناتها، ودعا إلى إعطائها حقّها في الرّعاية والاهتمام والتّشجيع، وتوفير الفرص من دون تمييز..
اضافةتعليق
التعليقات