تصوير هبة الكناني
غسلت يديها الطاهرتين بعرق جبينها, لتضمد جرح كفيها اللتان خفت بريق انوثتهما من أجل أجر بخس, ما زالت هناك آثار أنامل صغيرة على قطع الطابوق التي صنعوها أطفالها لمساعدتها!.
إنها سيدة عاملة من بين النساء اللواتي يعملن في معامل الطابوق والتي اطلق عليهن نساء الشمس لما يواجهن من جهد مضني في عملهن تحت أشعة الشمس اللاهبة..
معامل الطابوق
قبل أن تصل وجهتك التي تقصدها في ناحية الحر على طريق الكمالية تتراءى لك أعمدة الدخان المتصاعدة وهي تصنع سحب سوداء تزكم الأنوف بدخانها الثقيل, وحينما تقترب ينتابك ذهول لم تألفه فعلى الرغم مما نحيط به من تقدم حضاري تجد ما يفجع القلب لقسوة الحياة, حيث ترى عوائل تعمل بكل أفرادها في معامل لصناعة الطابوق تحت وطأة القيظ بعضها من أطراف المدينة وغيرهم من مدن أخرى يقطنون في بيوت متهالكة وأغلبها بنيت من الطين ليكونوا بالقرب من عملهم..
(بشرى حياة) كانت هناك لتنقل لكم جانبا من حياة أخرى في طرف آخر من مدينة كربلاء المقدسة..
بداية العمل
نجاة سيدة عشرينية غير أنها تبدو في عقدها الأربعين حدثتنا عن أولويات العمل قائلة: حينما تدق الساعة الثانية بعد منتصف الليل أخرج للعمل في صناعة الطابوق حيث أقوم بتنظيف التراب من الأحجار التي تعيق عجنه بعدها أصب الخليط في القوالب, في حين يتكلف زوجي مهمة اشعال النار في مكان مخصص يسمى(الكورة) وذلك ليدخل الطابوق فيه من أجل حرقه ليتماسك أكثر ويساعد في بناء أقوى.
وأضافت: نستمر أنا وزوجي وأطفالي بالعمل من الساعة الثانية بعد منتصف الليل حتى التاسعة صباحا, ثم نأخذ قسطا من الراحة, ونستأنف عملنا من الساعة الثانية بعد الظهر حتى التاسعة مساءً.
وحينما سألنا زوج السيدة من أي مدينة هم وعن مستقبل أطفاله ولما يحضرهم معه قال: نحن من نواحي مدينة النجف, وقد اعتدنا على هذا العمل وهو مصدر رزقنا الوحيد.
وأضاف: من الضروري احضار أطفالي معي فنحن نسكن هنا بالقرب من المعمل أما مستقبلهم فهو واضح إذ سيلاقون نفس قدرنا ولربما يبتسم لهم القدر ويتغير.
بينما اعتادت أم كريم أن تجهز متاعها من الطعام والشراب لتحمله معها وهي تتجه صوب المعمل لتلتحق بركب النساء أمثالها ممن ارهقهن العيش واجبرتهن الظروف الاجتماعية والاقتصادية على العمل في مكان غير مؤهل للسيدات.
المكان الذي يصعب على رجل قوي البنية تحمله إذ إن مزاولة العمل لا تكون إلا في فصل الصيف فقط.
حدثتنا أم كريم قائلة: كنت أشد عزيمة في عملي إلا أن صحتي بدأت تنهار شيئا فشيئا بعد أن أجريت عملية كبرى لاستأصل إحدى كليتي, ومن حينها أصبح كريم يلازمني العمل لمساعدتي.
وبعد سؤالنا عن مكان سكنها أشارت لنا عن كوخ يبعد عدة كيلو مترات عبارة عن حجرة واحدة يكسو سقفها عيدان السعف, وهو غير صالح للسكن.
مؤازرة بعضهم
عوائل كربلائية وغيرهم من مدن أخرى رفض بعضهم الحديث معنا ولشدة الحرارة ومنظرهم القاسي فقد غطى الطين والوحل هندامهم وأجذامهم وأيديهم ناهيك عن تفصد العرق على جباههم لذلك وهبناهم العذر.
وبعد عناء استطعنا الحديث مع أحد اصحاب المعامل رفض ذكر اسمه قال لنا: كل من يعمل هنا هم عوائل وأقارب لذا نجد أن صلة القرابة هي من تشد من أزر بعضهم على تحمل عبء العمل للبقاء والاستمرار والالتزام فيه..
كما أن هذا العمل متعارف منذ سنوات حتى في بعض الدول المجاورة مثل مصر وغيرها وبرغم صعوبته وأجوره الزهيدة إلا أن له عامليه الذين يقصدوننا كل عام في فصل الصيف ونحن لا نجبر أحد على العمل.
وأضاف: أجور العمل زهيدة قياسا بالتعب غير أن هذا ما تسمح به مقدرتنا حيث إن كل ألف طابوقة ب(30) ألف دينار, وهذا يكلف عمل يوم كامل من الساعة الثانية بعد منتصف الليل حتى التاسعة مساءً, ونحن نصرف الأجور حسب الرغبة إما يوميا أو أسبوعيا أو شهريا.
منظومة الحياة
وكانت لنا هذه الوقفة مع الباحثة الاجتماعية ثورة مهدي الأموي قالت من خلالها: نأسف كثيرا لما تواجهه النساء من اضطهاد في العمل ضمن منظومة الحياة من أجل معاونة الزوج لتوفير لقمة العيش ولا نقول من أجل حياة كريمة فلا يوجد أي حياة تليق بسيدة وسط معامل الطابق التي وزعت بشكل عشوائي في الخلاء حول أطراف المدن مثل مدينة النجف الأشرف وكربلاء المقدسة وغيرهما.
وأضافت: أهم ما في الموضوع هو تفعيل دور المفتشين العائدين إلى قسم العمل الاتحادي العائد إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ورفع تقارير إلى الوزارة عن وضع النساء والأطفال في هذه المعامل وما يتعرضون له, وكذلك لدائرة الضمان الاجتماعي دور في معرفة هل هذه النسوة تعمل وفق قانون الضمان الاجتماعي, كذلك لوزارة الصحة دور في نقل الواقع الصحي لتلك العوائل وتغيير واقعهم المؤلم وايجاد البدائل لهم علما بأنه السبب الرئيسي لعمل النساء في جمع الملح ومعامل الطابق هو الفقر والعوز, لذا يجب على الحكومة توفير حياة حره كريمة لهم.
وأضافت الأموي: كما للجانب الصحي دور مهم إضافةً إلى المجهود العضلي والنفسي لهؤلاء العوائل والسبب يعود للعمل تحت حرارة الشمس القاسية ولانعدام مقومات العيش البسيط في السكن بتلك الأماكن كالماء النظيف والكهرباء, إذ يكونوا عرضة للأمراض وخصوصا الأطفال, فضلا عن الدخان الغليظ الذي ينتج من عملية صناعة الطابوق والذي من المؤكد له آثار سلبية على صحتهم جميعا.
اضافةتعليق
التعليقات