ان الحروب لا تقتل البشر فحسب بل تحرق الشجر وتدمر الحجر وتقتل كائنات البحر ومنابع المياه وتتلف المحاصيل الزراعية والغابات وتسمم التربة وتقتل الحيوانات، ولأجل حماية المنوعات البيئية الحياتية والنباتية أعلنت الجمعية العامة يوم 6 نوفمبر من كل عام يومًا دوليًا لمنع استخدام البيئة في الحروب والصراعات العسكرية، وجاء هذا القرار ليؤكد أن البيئة من ضحايا وخسائر الحروب بعد الإنسان في عالم تسود فيه النزاعات السياسية وتتضاعف الصراعات العسكرية على ترابه.
إن شعوب العالم ودوله ومنظماته تأمل كثيرًا أن يسود السلام بين أرجاء العالم، ومنع الصراع بين الدول يحفظ السلام، ولن يتحقق الأمن أو السلام والتنمية في دول العالم إلا بتعمير الموارد الطبيعية من زراعية وحيوانية وبحرية، فهي موارد جعلها الله لكي تكون وسيلة لحياة الإنسان، ودعمًا للنظام الايكولوجي، وهي تمثل مادة تمد الإنسان بما يحتاجه من الطاقة الحياتية.
إن هذه المناسبة الإنسانية تمثل دعوة لجميع الدول والبشر إلى ترك النزاعات السياسية والصراعات العسكرية لحماية الإنسان وبيئته، والتنافس لاستغلال الموارد الطبيعية من أجل سعادة الإنسان وتنميتها لسد المتطلبات السكانية المتزايدة يومًا بعد يوم وساعة بعد أخرى في عالم يُعاني من شُح الموارد وسوء إدارتها، ومن تغيرات مناخية قاسية وارتفاع نسب الفُقر والجوع والبطالة.
أهمية حماية البيئة
إن الحديث عن حماية البيئة والحفاظ عليها في الظروف الطبيعية هو أمرٌ من السهل الولوج فيه وإقناع الآخرين بأهميته، إلا أن الحديث عن حماية البيئة من تأثيرات الحروب والحفاظ على سلامتها في وجود الصراعات العسكرية هو أمرٌ في غاية التعقيد، ومن الصعب إقناع العامة بأهميته فضلاً عن المختصين، فالحرب هي بؤرة الخوف التي تُقَوِّضُ مفهوم الأمن الشامل بجميع أبعاده والتي أحد أركانه الأمن البيئي ذاته، فمن فقد أمنه على ماله وأسرته، ومن فقد أمنه على نفسه التي بين جنبيه لن يكترث مطلقاً بأمن بيئته هذه الصورة الذهنية التي تَطِيشُ بكفة الأمن البيئي عند مقارنته بالآثار الأخرى للحروب هي من أكبر العقبات والإشكالات التي تعترض طريق من يحاول تقديم البراهين والإثباتات على أهمية حماية البيئة في ظل الحروب.
إن الآثار الإنسانية، والنفسية، والاجتماعية جميعها وكذلك الأثار الاقتصادية بالرغم من حدتها وتأثيراتها البالغ على حياة البشر وحضارتهم إنما هي آثار مؤقتة تنتهي في وقت قصير نسبياً، فالتأثيرات النفسية والاجتماعية للحرب تزول عادةً بعد انتهاء الحروب واستتباب الأمن، أما الآثار المادية والاقتصادية فهي آثار مرهونة بقدرة الدولة على التعافي وإعادة البناء والإعمار وهي مدة تزيد أو تنقص بناءً على الكثير من العوامل المتداخلة، وحتى الآثار الإنسانية والجسدية من موت وإصابة وتشريد بالرغم من فداحتها فإنها سوف تنتهي بانتهاء الجيل الذي عاصر تلك الحرب، لكن الآثار البيئية للحروب هي آثار طويلة المدى تبدأ بنهاية الحرب وتستمر عشرات وربما مئات السنين بعدها، ويمكن ضرب الكثير من الأمثلة التي تُؤكد هذه الحقيقة، فلا تكاد تخلو حرب من الحروب المعاصرة من آثار بيئية عميقة ومستمرة، فالإشعاعات الناتجة عن إلقاء القنبلة النووية على مدينة هيروشيما اليابانية في الحرب العالمية الثانية عام 1945م لازالت في بداية تأثيرها، وسوف تبقى في المستقبل إذا علمنا أن نصف عمر الإشعاع الصادر عن عنصر (اليورانيوم 235) هو 700 مليون سنة وهناك أطفال مشوهون لا يزالون يولدون حتى الآن، كما أن نسبة المصابين بسرطان الدم بين سكان مدينتي هيروشيما ونجازاكي تزيد تسع مرات عنها في سائر أنحاء اليابان.
أن الحديث عن حماية البيئة في ظل الحروب ليس حديثاً قليل الأهمية، وليس ترفاً فكرياً كما يظن الكثيرون، ولكن الانسان عادةً ما يُصنف بعض الأمور في ذيل قائمة اهتماماته بالرغم من أهميتها القصوى، وذلك لاعتياده على وجودها واقتناعه بدوامها، ولو فقد الإنسان أمنه البيئي ولو ليوم واحدٍ فقط، ليجد طعامه قد صار مُشعاً، وماءه مُسمماً، وهواءه ملوثاً، حينها سيُدرك هذا الإنسان قيمة البيئة وأهميتها، وسوف لن يدخر جهداً لحمايتها وحفظها.
إننا (عادة ننظر إلى الحرب من منظور ضيق كمشكلة أخلاقية فقط ونادراً ما نسمع عن الحيوانات والنباتات البريئة التي تُدَمَّر، والمساحات الهائلة التي يجتاحها التلوث ولكن فيما مصادر الطبيعة تواصل الانكماش سنُرغَم يوماً على البدء بأخذ الضرر الذي نُلحقه بالطبيعة بعين الاعتبار).
من المبادئ الدولية المقترحة لحماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة التي أقرتها مؤخراً لجنة القانون الدولي بالجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السابعة والستين بجنيف في أغسطس من عام 2015م إنما تهدف إلى تعزيز حماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة من خلال تدابير وقائية وإصلاحية، وتقليل الأضرار العرضية التي قد تلحق بالبيئة أثناء النزاع المسلح إلى أدنى حدٍ ممكن، ولا تهدف أبداً لإقناع السياسيين بإنهاء الحرب.
إن إفساد الأرض لا يقل خطراً عن سفك الدماء، وتدميرها لا يقل جُرماً عن قتل الأبرياء، وقد ساوى القرآن الكريم بينهما على لسان الملائكة في قوله تعالى: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) بل إنه "جل وعلا" قَدّمَ الإفساد في الأرض على سفك الدماء لعظيم أثره، ودوام آثاره، وليس هناك فساد أعظمَ مما تسببه الحروب على البيئة الطبيعية بما فيها من تربةٍ وماءٍ وهواء وامتداد تأثيرها للثروة الحيوانية والحياة البحرية حتى تأتي في النهاية على ذلك الإنسان الذي بدأ تلك الحروب وأشعل فتيلها.
حرائق البيئة يجب ان تتوقف
مع الأسف الشديد كانت البيئة دائماً الحلقة الأضعف في مسلسلات الحروب التي شنتها عدد من دول العالم ضد بعضها البعض، فلا حاجة مثلاً للحديث عن الحربين العالميتين الأولى والثانية ومجموع الكوارث التي نجمت عنهما، ولا حاجة للاستطراد في القنبلتين النوويتين الأميركيتين اللتين قتلتا مئات الآلاف، فضلاً عن تدمير البيئة ومرافق حيوية وبنى تحتية لليابان.
كافة الحروب التي وقعت وتجري الآن، تُدفع خلالها أثمان باهظة، إذ ليست هناك حرب توزع الورود أو تخرج منها بلدان بسلام ودون أن تنتهك طبيعتها ومرافقها، فالحرب التقليدية او تلك الحديثة ليست موجهة ضد طرفين فحسب، وإنما ضد كل ما يقع داخل جغرافية البلد، من سكان وأرض وبحر وجو.
ما يجري الآن في سورية على سبيل المثال إنما هو فعل بشري ينتقص من البيئة والطبيعة السورية، والوقائع تثبت أن الإنسان هو المهدد الأول للطبيعة، خصوصاً وأن كافة الدول اليوم بدأت تتراكض وتتداعى من أجل الاتفاق حول الحد من التغير المناخي الذي تغول بفعل سياسات الدول المتقدمة.
الدول الصناعية والحديثة الكبرى نتيجةً لتوسعها وتوسع نفوذها، أقدمت على إقامة مشروعات تنموية كبيرة جداً، لكنها أيضاً سلبية من حيث التأثير على المناخ، وكافة التقارير اليوم تقول إن هذه الدول التي تضم على رأسها كلا من الولايات المتحدة الأميركية والصين والهند وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا... إلخ، تؤثر مشروعاتها الاقتصادية سلباً على المناخ.
وإلى هذه اللحظة لم تبذل هذه الدول وأخرى كثيرة مثلها، الجهد المطلوب في سبيل الحد من التغير المناخي، مع العلم أن ممارسة الأنشطة المشروعة الضارة وتلك غير المشروعة، من شأنها أن تستنزف من طاقة الكرة الأرضية على التحمل، في ظل التطور السكاني والعمراني وتحديات التنمية.
أضف إلى ذلك أن كافة الدول التي تدخل في صراعات مع بعضها البعض، آخر شيء تفكر فيه هو الحفاظ على البيئة، ذلك أنها تستخدم الأسلحة الفتاكة والمتطورة التي تدمر البيئة، هذا غير التدخل العسكري الذي يستتبعه كلف كبيرة على سلامة البيئة العامة.
العراق اليوم وبعد غزو أميركي مصلحي، يحتاج إلى عشرات السنين حتى يعود إلى ذلك العراق الواقف على أرجله، ويحتاج أيضاً إلى مثل تلك السنوات لإزالة مخلفات الغزو الأميركي، لكنه لن يستطيع إزالة ما نتج عن الأسلحة البيولوجية الأميركية التي أصابت العراقيين وأنتجت أمراضاً سرطانية خطيرة.
والحال في سورية كذلك، وسط نزاع صعب ومعقد يأخذ معه الأخضر واليابس، لأن جل ما يفكر فيه فرقاء النزاع هو تحقيق حسم عسكري بصرف النظر عن الكلف التي تدفع، الأمر الذي استنزف من البنية التحتية السورية وأصاب البيئة في مقتل.
والحال نفسه في كثير من دول العالم، من حيث تدمير البيئة على حساب تحقيق الانتصارات العسكرية، فهذه السودان مثلاً، التي تمتلك قدرات سلة غذائية يمكنها أن تصدر للوطن العربي، ليس أمامها من خيار في ظل هذا المستوى من الحكم والتناقض الشخصي الضيق، سوى أن تحقق مصالحها ضاربةً بعرض الحائط كل ما يتعلق بالبيئة وسلامتها.
وأما نموذج الاحتلال الإسرائيلي فهو حاضر بقوة في مشهد التنكيل بالبيئة الفلسطينية وتلويثها ضمن مخطط استهداف الفلسطينيين وجعل حياتهم أشبه بالكابوس، من أجل دفعهم للرحيل عن وطنهم تحت تهديد السلاح والعدوانات المستمرة وخلق بيئة طاردة ومضرة للصحة.
يبقى القول إن العالم لم يستفد بعد من تجارب الماضي الضارة بالبيئة، مع أن دروس هذه التجارب المأساوية باتت واضحةً وما تحتاجه هو ربطها بفعل صحي مدروس وقائم على ترشيد الاستهلاك العام والحفاظ على البيئة لضبط حالة المناخ، وتجسيد الشراكة الدولية منعاً لنشوب صراعات صغرى أو كبرى.
وما لم تتحول نداءات ومنتديات العالم حول البيئة إلى إجراءات عملية، فسيظل يحرق بيئته وما لم يتم ردع المعتدين فستظل الصراعات التي يشعلونها تأكل الأخضر واليابس فهل يفيق العالم أم يظل الحريق مشتعلاً.
اضافةتعليق
التعليقات