بينما كل الظن فينا أننا من نحيي ذكرى الحسين نجد أن ذكراه هي من تحيينا وتظهر كل بذور الخير التي كادت أن تعدم فينا، وبينما تنشر الرايات وتتوشح الأمة السواد نجد كل ذي حاجة تمت حاجته وكل جائع شبع وكأن ما حدث لم يكن من سنين طوال بل كان الأمس فتتجلى كل صورهم أمام أعيننا وترتفع الأصوات في إحيائهم من جديد فيظهر الحزن في كل شيعته ويرسم العزاء في كل أرضه سواء كان ساكن الدار غني أو فقير فهو يقيم عزاء إمامه على أتم وجه. فبالمواقف التي تجلت في كربلاء كانت دروسا وثقت في عمق الزمن من صمود ووفاء، فحين يخطب الإمام الحسين (عليه السلام) محمصاً أصحابه «ألا وأني أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام.. هذا الليل قد غشيكم فاتخذوا جملاً.. فإن القوم إنما يطلبوني ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري».
ولا يكون جواب الأصحاب موقف الخذلان كجواب بني إسرائيل {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فأذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} أو المنافقين {ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً}، {إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً}.
بل كان جواب أهل الرسالة «لما تفعل ذلك؟ لانبقى بعدك؟! لا أراد الله ذلك أبداً».
«أنحن نتخلى عنك.. أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ولا أفارقك حتى أموت دونك».
«والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حياً ثم أذري ويفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً».
"والله وددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف قتلة وأن الله عز وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من اهل بيتك".
إنها القمة في الوفاء والصدق والصمود ولذلك قال عنهم الحسين عليه السلام: «فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي.. فجزاكم الله عني خيراً».
سَطَتْ ورَحَى الهيجـاءِ تَطحَنُ شُوسَها ووجـهُ الضـحى فـي نَقِعـها مُتنقِّبُ
تَهلَّلُ بِشْـراً بــالقِـراعِ وجـوهُـها وكم وَجـهُ ضـرغـامٍ هنـاك مُقطِّبُ..
من كلماتهم صواعق تحرق تبريرات المتراجعين وفلسفات المتخاذلين وشعارات الخائرين ووساوس المثبطين والمتخاذلين وهذا مانفتقده اليوم فلدى الكثيرين دين ظاهر وباطن كافر، يدعون انهم على خطوات الحسين ولكن على وجه كل منهم شمر يبتسم حيث بدلوا النهج والمنهج خلافا للصدق والرسالات، وبدل ان تسيطر عليهم الاستقامة امتدت منهم جذور اللئامة ولم يكونوا ابدا كما عاهدوا الله بل شاعوا في الأرض فسادا حتى انزلوا دمعة يتيم ورملوا شابة في العشرين واثكلوا قلب أم وراحوا بنظر عجوز مسكين، هدروا الدماء وقتلوا الأبرياء فكانوا بشرا تجسد فيهم الشمر.
على عكس رسالة الحسين التي تبناها حتى أولئك الذين كانوا من غير ديانات ورسموا صورة واضحة المعاني شعارها: (الحياة على قيد الحسين) وتعددت الأسماء واختلطت الدماء فكان من بينهم في عاشوراء مقاتلا إلى جانب الحسين يخطب بجيش عمر بن سعد قائلا:
"يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن أخوة، وعلى دين واحد، وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا أُمّة وأنتم أُمّة، إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذرّية نبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله) لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد".
فلم يستجيبوا له, وقال له شمر بن الجوشن: إنّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.
فرد عليه زهير: أفبالموت تخوّفني؟ فوالله، للموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم..
حمل على جيش عمر بن سعد، وهو يرتجز ويقول:
أنا زهير وأنا ابن القين.. أذودكم بالسيف عن حسين
إنّ حسيناً أحد السبطين.. من عترة البرّ التقيّ الزين
ذاك رسول الله غير المين.. أضربكم ولا أرى من شين
يا ليت نفسي قُسمت قسمين..
وقال محمّد بن أبي طالب: فقاتل حتّى قتل منهم عددا كبيرا ثم عاد للحسين قائلا:
فدتك نفسي هادياً مهديّا اليوم ألقى جدّك النبيّا
وحسناً والمرتضى عليّا وذا الجناحين الشهيد الحيّا
فكأنّه ودّعه وعاد يقاتل، فشدّ عليه كثير بن عبد الله الشعبي، ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه، ولمّا صرع وقف عليه الحسين (عليه السلام) فقال: لا يُبعدنّك الله يا زهير، ولعن الله قاتلك لعن الذين مسخوا قردةً وخنازير..
وهنا تجلت أبهى رايات الوفاء والتضحية بل رسالة الإسلام الحق.
قــوم اذا نــــودوا لدفــع ملمَّــةٍ
والخيـل بيــن مدعّس ومكردس
لبسوا القلوب على الدروع واقبلوا
يتهـافتــون على ذهاب الأنفــس
نصروا الحسيـن فيا لها من فتيـة
عافوا الحياة والبسوا من سندس.
اضافةتعليق
التعليقات