سؤال في ذاكراتي وقد حار به عقلي، يا ترى من هي زينب؟ وبقيت اعد في كلماتها وأقرؤها لكني لم اعرفها، فقد عرفت بأنها القوة والجبروت، الصمود والصبر، الرسالة الهادفة والموعظة، ومازلت أعيد وأعد الكلمات، لم استطع التحمل فما أن حل الصباح حملت نفسي ورحلت لتلك الأراضي التي تدعى أرض كرب وبلاء، وصورت في تلك اللحظات صوراً لهذا الألم الذي حل بمن لم أكن أعرف من يكونوا، الذين قتلوا في هذا المكان..
لكن وددت أن أعرفهم وأتعمق في حبهم وعشقهم، فأذهلني منظر عجبت لرؤيته ووقفت مندهشة لما أرى، ذهبت واقتربت أكثر لأنظر لتلك المرأة التي ملكت الصبر، بل هي الصبر كله، وجعلت روحها فداءً للدين فكانت أشبه بأمها الزهراء (عليها السلام)، وأخذت الشجاعة من أبيها الإمام علي (عليه السلام)، ووجدت فيها الروح العالية والسمو رغم الألم الذي أحاط بها، فأنا أسير في المكان ووجدت كتاباً يسطع علما، فأخذت ذلك الكتاب وبدأت أقلب في تلك الصفحات، فقرأت بعض العبارات لتلك المرأة العظيمة صاحبة القوة والرسالة الهادفة للدين وللعالم أجمع، فوجدت كلمات تقول:
(أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هوانا،ً وبك عليه كرامة وأن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسرورا حيث رأيت الدنيا لك مستوثقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا؟!! فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله عز وجل (ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب أليم؟)!.
يا لها من امرأة عظيمة الوصف والكبرياء، فبكلامها أسكتت العالم وكل من يريد الظلم بحقهم وأن الله مع المظلوم ومهما كان الثمن الروح أو غيرها، لكن أنا حينما أنظر وأقرأ أتصور كل شيء في مخيلتي، فعيناي لا تتحمل الصبر، فقد جرت دموعي كالسيل، وأجهشت بأعلى صوتي وفزعي لمّا قرأت هذا الكلام:
(أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والدنيء والشريف، ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي، وكيف ترتجي مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم).
من منا يسمع هذا الكلام ولا يبكي وما فعلوه بأهل بيت النبوة ومنبع الرسالة، ليتنا كنا نحن ولا أنت يا بنت فاطمة الزهراء (عليها السلام)، يا لتلك المرأة التي تملكت الصبر بأعظم درجة والتسليم لأمر الله تعالى والرضا بقضائه، فقد شهدت وهي في الرابعة من عمرها الشريف استشهاد ورحيل جدها المصطفى، وبعد أشهر قلائل شهدت مصيبة أمها فاطمة الزهراء (عليها السلام) واستشهادها، وبعد سنوات تلقت والدها أمير المؤمنين علياً سلام الله عليه مخضّب الرأس محمولاً من محرابه إلى بيته حتى فاضت روحه الطاهرة بعد ثلاث... ثم شهدت أخاها الحسن المجتبى وهو يتقيأ كبده المسموم قطعاً حتى لفظ أنفاسه المباركة الأخيرة بين يديها وقد عقَّته هذه الأمة.
وأما كربلاء! فقد أرتها أهوالاً وعجائب.. فعاينت فيها أشلاء الضحايا، مجزرين على صعيد المنايا، ورأت فيها مصارع الشهداء من عشيرتها، وأخواتها وبني عمومتها، قد فرق السيف بين الرؤوس والأبدان، وحرارة الشمس قد غيرت منهم الألوان، وبينهم ريحانة المصطفى سيد شباب أهل الجنة صريعاً على الرمضاء، فأجهشت بالبكاء، ونادت بهذا الدعاء: الهي تقبل منا هذا القربان.
ثم انثنت شاكيةً وجدها الى جدها وهي تقول: يا محمداه، هذا حسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا وذريتك مقتلة.
السلام على من حباها الجليل جلَّ اسمه بالصفات الحميدة، وزادها قوةً وثباتاً على الدين والعقيدة، وشد الله عزمها في مواطن المحن الشديدة، وألهمها جميل الصبر، وأكرمها جزيل الأجر.
وبدأت أتألم كثيرا فأخذت ذلك الكتاب وجلبته معي إلى دياري ﻷتعلم منه المزيد من العلم ومن العالمة الغير معلمة، فقررت أن أصف تلك المرأة التي ربما لا توصف أبداً مهما أكتب عنها، ومهما كتب عنها المشاهير من الكتاب لم يوفوا جزءاً مما فعلته في أرض كرب وبلاء، فبدأت أرى في مخيلتي ما صورته في ذلك اليوم وما رأته من مصائب حلت بأهل بيت النبوة (عليهم السلام)، وأثناء الذهاب في تلك المخيلة أخذت قلمي فبدأت يدي تدون ما حدث وما وصفت بها هذه المرأة.
زينب، ما أدرانا من هي زينب! كأنها بوتقة سكبت فيها جميع الكمالات، ورشت بعطر جميع الفضائل والمكارم والحسنات، حتى أصبحت رمز العبادة والتسليم لأمر الله والرضا بقضائه، ورمز الغيرة والعفاف والشجاعة والبلاغة وقوة الجنان، ومثال الزهد والورع والعلم والشهامة.. بل أصبحت في كل ذلك بعد أهل بيتها الطيبين مناراً يهتدى به في التحلي بأخلاق الله تبارك وتعالى، فيستلهم منها ثمار المعرفة، ونصرة الحق والدفاع عن حريمه المقدس، فهي إحدى أفلاذ كبد الزهراء، وبضعة المصطفى سيد الأنبياء، وزينة روح علي سيد الأوصياء.. في علو مقام زينب تلك الدرة المكنونة، والجوهرة المصونة، كانت سيدتي ومولاتي زينب (عليها السلام) لتؤدي امتحانها الصعب ودورها الخطير في نهضة أخيها الحسين (عليه السلام) بكربلاء، وما كان للسيدة زينب (عليها السلام) أن تنجح في أداء ذلك الامتحان، وممارسة ذلك الدور، لو لم تمتلك ذلك الرصيد الضخم من تجارب المقاومة والمعاناة، ولو لم يتوفر لها ذلك الرصيد الكبير من البصيرة والوعي.
فواقعة كربلاء تعتبر من أهم الأحداث التي عصفت بالأمة الإسلامية بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان لسيدتي زينب (عليها السلام) دور أساسي ورئيسي في هذه الثورة العظيمة، فهي الشخصية الثانية على مسرح الثورة بعد شخصية أخيها الحسين (عليه السلام).
كما أنها قادت مسيرة الثورة بعد استشهاد أخيها الحسين (عليه السلام) وكان لها دورا كبيرا قد غفل عنه الآخرين وهو:
1- التكليف الفردي وهو ما يتعلق بها تجاه الله سبحانه.
2- التكليف العام وهو ما يتعلق بها تجاه الآخرين.
فحينما قالت وتكلمت هذا الكلام قائلةً:
(الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وطهرنا من الرجس تطهيرا،ً إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا يا ابن مرجانة).
لقد هزت كيان أبن زياد بهذا الرد الشجاع القوي مع أنها تمر بأفظع مأساة وأسوأ حال، فأراد ابن زياد أن يتشفّى بها فقال لها:
(كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟).
لكن العقيلة زينب أفشلت محاولته وانطلقت تجيبه بكل بسالة وصمود: (ما رأيت إلا جميلاً)، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم).
اضافةتعليق
التعليقات