إن الإنسان بطبعة ميال إلى اختزان أحزانه, وهو يعود إليها, ويفكر فيها كلما صادفه حادث آلمه, فالأشجان تثير الأشجان, والأحزان تجر الأحزان, وأسوء ما يمكن أن يحدث للمرء, أن يعيش في ماضيه الحزين ولا يذكر من هذا الماضي إلا تلك الصور التي ملأت نفسه بالمرارة فرسخت في ذهنه, وتركت بصماتها في رأسه.
ما هو الأثر الذي يمكن أن تتركه في نفوسنا تلك الأحزان ونحن نمضي بعمرنا في طريق الحياة نفكر في الجروح التي أصابتنا، في ذكريات تلك اللحظات المريرة التي من الممكن أن تلازمنا وتقودنا إلى عقد نفسية, كيف لنا أن نخلص أنفسنا من العيش في الماضي وذكرياته الأليمة؟ للعيش بواقع أجمل لنتطلع إلى مستقبلٍ يحمل لنا صور حلوة ننتظرها ونتوق للقائها...
(بشرى حياة) سجلت حكايات اشخاص واجهوا الحياة بقسوتها ليرسموا لأنفسهم مستقبلا زاهرا بالأمل خالي من ذكريات أحزانهم..
شجن خفي
إنها حكاية (غدير) وهو اسم مستعار, تلك الفتاة التي عاشت يتيمة وابويها على قيد الحياة, فقد قررا أن ينفصلان عن بعضهما دون ان يفكرا بالضحية وهي تلك الطفلة التي كبرت, لتجد الأب يخبئ المال في حقيبتها حينما تزوره, من اجل أن لا تراه زوجته لتبدأ بالشجار معه, فهي ليست بحاجة إلى المصروف يكفي انك تشتري لها كسوة الصيف والشتاء وثياب المدرسة, وتعود إلى بيت أمها التي كانت تجعل منها خادمة لرعاية أطفالها من زوجها الثاني, وتصر على تركها التعليم ففي نهاية المطاف ستذهب لبيت الزوج فهو ملاذها الوحيد فبماذا ستنفعها الشهادة!!
ويأتي المساء لتدخل حجرتها متهالكة, جراء كل شيء حولها من أعمال البيت والمدرسة, لتختم أحزانها بسماع موشح كل ليلة من زوج أمها الذي كان صوته يصل إلى الجيران وهو يهتف عاليا: "لماذا لا تعيش في بيت أبيها هو أولى برعايتها فهي تأكل وتشرب بالمجان, اخبريها ان تحضر منه المال ثمن مأكلها ومسكنها هذا ليس بفندق".
كانت الأم تحاول إسكاته, إلا انه لم يكترث لتوسلاتها, ويجيبها: "أنا أريدها ان تسمع".
حدثتنا غدير وهي الان في الخامسة والعشرين من عمرها قائلة: "في تلك الليلة كان الجميع قد غرق في نوم عميق إلا أنا, كنت اجلس في فناء البيت أتأمل جمال النجوم وهي متلألئة في كبد السماء وبينما أنا غارقة في تأملاتي تذكرت عمتي المسنة التي هاجر ابنها منذ سنين, لتعيش وحدها وتقتات من المال الذي كان يرسله لها ولدها, علمت من أبي أين تقطن، كنت املك بعضا من المال ادخرته من مصروفي بالخفاء, جمعت كتبي وثيابي البالية, ورحت ابحث عن قلب يحتويني ويجلي من داخلي أحزاني التي اختزلتها منذ سنين خلت".
وتابعت: "ذهابي إلى عمتي قد أراح الجميع حتى إنهم لم يفكروا بزيارتي, أمي منعها زوجها لدرجة إنها لم تتصل لتعرف أين أنا وأين ذهبت, حتى أبي اتصلت عمتي به لتخبره بأني سأمكث معها, قضيت سنوات في رعاية عمتي حتى أنهيت جامعتي، استطعت أن اخرج من طيات الماضي وآلامه, وتطلعت إلى المستقبل لأرى أبهى صوره, إلا إني لم ازر والداي خلال تلك السنين الطوال, وهم لم يسألوا عني وكأني لم أولد يوما, حتى تناسيت وجودهما في حياتي, وان سألني احد اخبره إني يتيمة الأبوين لهذا أعيش مع عمتي, من اجل أن لا أتعرض لتساؤلات كثيرة إن أخبرته بأنهما على قيد الحياة".
وحينما سألناها هل كرهتهما؟.. قالت: "لا اعرف" واكتفت بصمت خط في حدقات عينيها دموع شجن خفي.
بين الماضي والحاضر
ويذكر (س) قصته قائلا: "الكابوس الذي لاحقني طوال حياتي (كابوس أبي) أبي الذي لا اذكر انه احتضنني يوما, كان قاسيا وجبارا، كان يبرحني ضربا إن طلبت منه أي شيء وإذا حصل وأخطأت ينزعني ثيابي ليضربني على ظهري بحزامه حتى يتسلخ جلدي, اذكر مرة إنني فقدت الوعي, كانت أمي تحتضن أختي وتلوذ في حجرتها ترتعد خوفا فقد ينولها نصيب من العقاب إذا تفوهت بأي كلمة, وذات مرة تورمت قدماي ورقدت في السرير لأسبوعين لا أتمكن من السير مجددا, فكرة جبروت أبي وقسوته بقيت تطاردني طوال سنين حياتي, كنت أغار من صديقي حينما يحضر والده إلى المدرسة في اجتماع أولياء الأمور".
وأضاف: "لم يكن بمقدوري أن اطلب منه الحضور كنت أخاف, نعم اعترف بأن الخوف كان يعتريني لمجرد سماع صوته, بعد ذلك مرضت أمي ولازمت السرير حتى توفيت وهنا وقعت الطامة الكبرى, زوجة الأب وسطوتها وقسوة أبي، أصبحت الحياة جحيما، كنت قد تجاوزت الرابعة عشر من عمري آنذاك, هربت من البيت ورحت اعمل بأحد المطاعم الصغيرة حتى اشتد ساعدي وأنهيت دراستي, كنت ازور شقيقتي في بيت زوجها, لم أفكر يوما أن اسأل عن حال أبي وما آلت إليه حياته بعد هروبي".
وتابع: "وفي إحدى الصباحات الممطرة اتصلت أختي تتوسل أن احضر إلى المشفى، (أبي يحتضر وقد طلب رؤيتك), وبعد تردد قررت الذهاب، كانت قدماي تخط بثقلها في ذلك البهو الطويل الفاصل بين الردهة والممر حتى دلفت إلى حجرته المكتظة بالأسرة, نظر اليّ طويلا وجاء صوته واهنا, (لقد كبرت).. لم اجبه إلا إني أتطلع اليه وهو عاجز في سريره، أين ولّى ذاك الجبروت كيف أصبحت قبضة يده ترتعش هكذا ومجعدة، لم انبس بكلمة, كانت مشاعري مبهمة هل أنا اكرهه أم سعيد بانكساره ومرضه, لم تكن هناك إجابة لتساؤلاتي المتضاربة, وسمعته يقول لي "ما فعلته معك منذ سنين خلت فعله والدي معي قال لي إن القسوة تصنع الرجولة, وأنت الان رجل" بقيت صامتا لبرهة ثم استطردت قائلا: "ليس كل ما يقال تصدقه كان يجدر بك أن تفعل عكس صنع أبيك حتى لا تخسرني لأكون معك في أوقات احتياجك لي وتكون معي في أوقات احتياجي إليك".
ختم (س) حديثه: "انتقل أبي إلى خالقه في مساء ذلك اليوم, وخيم الحزن على قلبي إلا إني لم اجعل الماضي الذي عاش به والدي وقد جعلني أعيشه بعينه, يرسخ داخلي بل محيته من مفكرتي, لأجعل أطفالي يعيشون نقيض ما قاسيته من وجع وحزن وألم ووحدة في طفولتي وأنا أنام على أرضية المطعم".
العودة إلى الطفولة
وفي هذا الجانب شاركتنا أستاذ علم النفس نور الحسناوي قائلة: "لقد أكدت الدراسات والأبحاث النفسية, إن اعقد العقد التي تلازم الإنسان في حياته هي تلك التي تبدأ معه في طفولته, وإذا أردت أن تعرف سر العقدة التي يعاني منها المريض ذكرا كان أم أنثى, فلا تنسى أن تعود معه إلى طفولته، إلى سني حياته الأولى, كيف كان يعيش, وهل عاش طفولةً سعيدة أم كان الشقاء حظه من الحياة منذ ان رأى النور, ففي رأس الطفل صفحة بيضاء تترك الحياة عليها نقوشها البارزة بكل ما فيها من حب وكره، من سعادة وشقاء، من صور حلوة وصور أليمة".
حياة جديدة
وأضافت الحسناوي: "إن من يختزن الأحزان يعيش حياته في الظلام, ولن يرى النور إلا إذا نسى أحزانه, وافلح في أن يواجه الواقع في الوقت المناسب, وما أكثر الذين غابت عنهم شمس الحياة اعواما طويلة ثم أشرقت عليهم فجأة لتنقلهم معها من الظلام إلى النور ثم إلى حياة جديدة".
الحظ والقدر
وتابعت بقولها: "من الضروري أن لا يلعن المرء الحظ حينما يصيبه الفشل, فلن تكون هناك حياة بلا فشل, ولا يلِم القدر لأنه حرمه من المال والجاه الذي ينعم به غيره, ولا يقضي حياته مع الذكريات المريرة, ولا يحقد على الناس الذين ظلموه, فنحن من نظلم أنفسنا باختيارنا الأشخاص الخطأ, ونحن وحدنا الذين نستسلم للفشل, فإذا استطعنا أن ننسى كل ما صادفناه في حياتنا من آلام وأحزان, نجحنا أن نخلص أنفسنا من هذا الشعور بالتعاسة الذي يملأ نفوسنا ونحن نعيش مع ذكرياتنا المريرة, ولا سبيل إلى هذا كله إلا بالعمل والإنتاج وبالرد على كل من أساء إلينا بالإحسان, إن اختزان الأحزان هو اشبه بالموت البطيء أما العيش في الحاضر والتطلع للمستقبل هو حياة جميلة ولا حياة بغير تسامح وحب وانسجام".
اضافةتعليق
التعليقات