يُعتبر "نهج البلاغة" للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من الكنوز الفكرية والأدبية في التراث الإسلامي، حيث يجمع بين الحكمة والبلاغة، ويعكس رؤية شاملة لمختلف جوانب الحياة، بما في ذلك التنمية الاجتماعية. حيث وضح فيه الامام أبرز معالم التنمية الاجتماعية في خطبه ورسائله وحِكمه، وأسس وفق تلك المبادئ مجتمعًا قائمًا على العدالة والمساواة والتكافل.
ولأن كتاب نهج البلاغة يشمل موسوعة كاملة لنهج حياة المؤمن، سأوضح وأختصر في هذا المقال أهم المحاور الرئيسية والمهمة التي تناولها الإمام علي "عليه السلام" في نهج البلاغة.
المحور الأول: العدالة الاجتماعية
شكلت العدالة محورًا رئيسيًا في خطب ورسائل الإمام علي، حيث ربط بين تحقيق العدالة وتنمية المجتمع. مؤكدا فيها على ضرورة تحقيق العدالة في جميع مناحي الحياة. قال في إحدى خطبه: "والله لو وُهبَتْ لي الأقاليمُ السَّبعة بما تحت أفلاكِها على أن أعصيَ اللهَ في نملةٍ أسلُبُها جَلبَ شَعيرةٍ ما فعلتُه"(١).
تعكس هذه العبارة مدى حرصه على تحقيق العدالة حتى في أصغر الأمور، وعدم التهاون في حقوق الأفراد. وعرف الإمام في "نهج البلاغة"، العدالة تعريفًا شاملًا يتجاوز المساواة القانونية ليشمل العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالعدالة هي أساس الحكم الرشيد وأحد أهم عناصر الاستقرار والتقدم. في خطبته الشهيرة، يقول: "العدل قوام الرعية"، معبرًا عن أن العدالة هي الأساس الذي يقوم عليه استقرار المجتمع، وكان يدعو الإمام إلى توفير الفرص المتكافئة لجميع أفراد المجتمع بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية.
وأكد على أهمية توزيع الثروات بشكل عادل. كما جاء في رسالته إلى مالك الأشتر، يوصي الإمام بالاعتناء بالطبقات الضعيفة ويقول: "الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين"(٢). وكان يرى أن العدالة الاجتماعية لاتتحقق إلا فيما تحققت العدالة الاقتصادية وهي ضرورة لتحقيق التنمية الاجتماعية. كما شدد الإمام على ضرورة تنظيم الزكاة والصدقات والتأكيد على حقوق الفقراء في أموال الأغنياء.
وبما أن تطبيق العدالة وتنفيذها يجب أن تكون تحت عيون أمينة وواعية كان لابد من وجود حكام وولاة قادرين على تطبيق الأوامر وردع المخالفين حيث حرص الإمام علي على اختيار ولاة ثقات يحثهم على أن يكونوا عادلين ونزيهين في تعاملهم مع الرعية.
قال (عليه السلام): "وَإِنَّمَا يَسْتَجْلِبُ طَاعَةَ الرَّعِيَّةِ، بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْعَدْلِ فِيهَا".
يعكس هذا حرصه على أن يكون الحكام قدوة في العدالة، مما يعزز الثقة بين الحاكم والمحكوم. إن تطبيق العدالة بمفهومها الشامل يؤدي إلى تنمية المجتمع بطرق متعددة. تظل رؤية الإمام علي للعدالة كما هي في "نهج البلاغة" مصدر إلهام للمجتمعات الساعية إلى تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.
- المحور الثاني: مكافحة الفقر والتكافل الاجتماعي
في "نهج البلاغة"، يبرز الإمام علي (عليه السلام) أهمية مكافحة الفقر، ويرى أن الفقر ليس مجرد حالة اقتصادية، بل هو آفة اجتماعية تؤثر على الكرامة الإنسانية والاستقرار الاجتماعي، مؤكداً أن المجتمع العادل لا يمكن أن يتجاهل معاناة أفراده، ويشدد على ضرورة دعم الفقراء والمحتاجين وتوفير حياة كريمة لهم. فالتكافل الاجتماعي، بحسب رؤية الإمام، هو مسؤولية جماعية تتطلب من كل فرد المشاركة في دعم الآخرين. يقول في إحدى خطبه: "إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر ما يسع فقرائهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم".(٣). ويوضح هنا الامام (عليه السلام) طريقة التوازن الذي يخرج بالأمة الى روح التكافل ويبين وسائل مكافحة الفقر وتوزيع الثروة. حيث يدعو الإمام علي (عليه لسلام) إلى توزيع الثروة بشكل عادل، ويرى أن تركيز الثروة في أيدي قلة من الناس يؤدي إلى الفقر وعدم الاستقرار، وضرورة تحقيق التوازن في توزيع الموارد.
وكان يشدد على أن الثروة العامة يجب أن تُستخدم لتحقيق الخير العام وليس لمصلحة الأفراد فقط. وبين كيف تحتل الزكاة والصدقات مكانة بارزة في نهج البلاغة كوسيلة لمكافحة الفقر وتعزيز التكافل الاجتماعي. حيث دعا إلى تطبيق آيات الذكر الحكيم في فرض الزكاة، ويرى الإمام (عليه السلام) الزكاة حقاً للفقراء في أموال الأغنياء، ويحث على ضرورة إخراج الزكاة بانتظام والاهتمام بحاجات المحتاجين.
وجاء في العديد من خطبه وأحاديثه عليه السلام أن الرعاية الاجتماعية مسؤولية الدولة والمجتمع. وهو يدعو إلى توفير الدعم والرعاية للفئات الضعيفة والمهمشة، بما في ذلك الأيتام والأرامل والمسنين.
ولعل التغاضي الحكومي لتحقيق الضمان الاجتماعي والصحي خاصة، يقف في مقدمة الاسباب التي تدفع الشعوب للانتفاض على حكوماتها، وهو ما يحدث اليوم في دول الشرق الأوسط، فلقد جزعت هذه الشعوب من الظلم الذي تتعرض له من حكوماتها، ومن اهمال هذه الحكومات الحقوق الناس في الضمان الاجتماعي وفي توفير الحياة التي تليق بالكرامة الانسانية، وهو ما تحقق في ظل حكومة الرسول الأعظم ومن بعدها في الدولة الاسلامية التي قادها الامام علي "عليه السلام" حيث تم توفير الضمان الاجتماعي للشعب وقل الفقر لدرجة تصل حالة الاستغراب في حالة رؤية مواطن فقير في عموم الدولة الاسلامية التي كانت تضم ما يقارب خمسين دولة من دول اليوم.
يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) بهذا الصدد: الضمان الاجتماعي في الإسلام صبابة الإنسانية في قمتها، ولذا فإن الإسلام حيث ينطلق من زاوية الإنسانية، يصب هذا الضمان بما توافق الإنسانية في أعمق أبعادها الفضيلة، وبتأكيد لم ير التاريخ قبل الإسلام، ولم تسجل الحضارات بعد الإسلام حتى اليوم ضماناً إجتماعياً بعمق الضمان الإجتماعي في الإسلام).( ٤)
- المحور الثالث: الإصلاح الإداري ومحاربة الفساد
يركز الإمام علي في تعاليمه على أهمية الإصلاح الإداري ومحاربة الفساد كوسيلتين أساسيتين لبناء مجتمع عادل ومزدهر. ويؤكد الإمام في نهج البلاغة على ضرورة الإصلاح الإداري ومحاربة الفساد كوسيلة لتحقيق التنمية الاجتماعية. في إحدى رسائله إلى أحد ولاته، يقول: "فإنّ في العدل سعةً، ومن ضاق عليه العدلُ فالجورُ عليه أضيق". يعكس هذا الالتزام بضرورة أن يكون النظام الإداري قائمًا على العدل والنزاهة، وأن تكون القيادة نزيهة وخالية من الفساد لضمان تحقيق التنمية والازدهار.
إن الإصلاح الإداري ضروري لتحقيق الحكم الرشيد وضمان حقوق الناس.
وعرفَ الإصلاح الإداري: بأنه تنظيم الإدارة بطريقة تحقق الكفاءة والنزاهة والعدالة. في رسالته الشهيرة إلى مالك الأشتر، والي مصر، يقدم توجيهات شاملة حول كيفية إدارة الدولة بشكل عادل وفعال. كما يشدد الإمام علي على أهمية اختيار الكفاءات في المناصب، واستحقاق الأفراد الذين يتمتعون بالنزاهة والخبرة الذين يجب أن يتولوا المسؤوليات الإدارية. يقول في إحدى رسائله: "ولا يكونن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء" .
كما يعتبر الإمام أن الشفافية والمساءلة هما ركنان أساسيان للإصلاح الإداري. يجب أن يكون المسؤولون عرضة للمساءلة من قبل الناس، وأن يتمتع الجميع بالحق في معرفة القرارات الإدارية وأسبابها. في إحدى خطبه، يقول: "مَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ".
ويجدر بالذكر هنا أن فترة خلافته الامام علي هي أول وآخر دولة عادلة حكمت بكتاب الله. فالعدل هو محور الإصلاح الإداري عند الإمام علي (عليه السلام).
لم يغفل الإمام علي في خطبه آفات كل عصر وأسباب تدهور الأمم وانهيارها، وعلى رأسها الفساد الذي ينخر جسد الأمة. الفساد عند الإمام علي ليس مجرد إساءة استخدام السلطة لتحقيق مكاسب شخصية، بل يتجسد في أي انحراف عن مبادئ العدالة والنزاهة، يشمل الفساد الرشوة، والمحسوبية، والاستغلال الاقتصادي، وكل أشكال الظلم الإداري التي تقوض أسس المجتمع.
وكان يحرص ويؤكد على أن التربية والتوعية بأهمية النزاهة والعدالة جزء من محاربة الفساد والقضاء على المحسوبية والواسطة في التعيينات والمناصب الإدارية، عندما يتم اختيار الكفاءات وتطبيق مبادئ الشفافية والمساءلة، تصبح الإدارة أكثر فعالية واستجابة لاحتياجات الناس. ووضح أن محاربة الفساد والإصلاح الإداري تعزز الثقة بين الحكومة والمواطنين.
عندما يرى الناس أن المسؤولين يعملون بنزاهة وعدل، يزداد شعورهم بالولاء والانتماء للدولة. وكما نلاحظ تعكس تعاليم الإمام علي في "نهج البلاغة" رؤية عميقة وشاملة للإصلاح الإداري ومحاربة الفساد. من خلال التركيز على اختيار الكفاءات، والشفافية، والمساءلة، ومحاربة المحسوبية، إذ يقدم الإمام نموذجًا للحكم الرشيد الذي يمكن أن يكون أساسًا لتحقيق العدالة والتنمية المستدامة.
- المحور الرابع: التعليم ونشر المعرفة
يُولي الإمام علي أهمية كبيرة للتعليم ونشر المعرفة كوسيلة لتحقيق التنمية الاجتماعية. في إحدى خطبه يقول: "العقلُ عقلان: عقلُ الطبعِ وعقلُ التَّجرِبة، وكلاهما يؤدّي إلى المنفعة".
يشدد على أهمية العقل والمعرفة في بناء المجتمع وتقدمه. يرى أن التعليم والمعرفة أساس لبناء مجتمع قوي ومزدهر، هو مصدر هام للحكمة والتوجيهات التي تتناول جوانب متعددة من الحياة، حيث عكس كتاب نهج البلاغة رؤية الإمام لأهمية التعليم كوسيلة لتحقيق التنمية الشاملة وبناء مجتمع قوي ومستدام.
وأكد (عليه السلام) على أهمية التعليم حيث يرى أن العلم هو أساس التقدم والازدهار. يوضح الإمام أن السعي للعلم والمعرفة هو واجب ديني وأخلاقي.
قال عليه السلام: "العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة". يؤكد هذا القول على الدور الخالد للعلماء في نقل المعرفة عبر الأجيال. ويشير الإمام علي (عليه السلام) إلى مسؤولية المعلم في نشر المعرفة وتوجيه الطلاب.
يرى أن المعلم ليس فقط ناقلًا للمعلومات، بل هو مرشد يوجه الطلاب نحو الفهم الصحيح والتطبيق العملي للمعرفة. وذكر وصايا مهمة يؤكد الإمام فيها على أهمية طلب العلم من قبل المتعلمين، حيث يقول: "اطلبوا العلم ولو بالصين". يعكس هذا القول حثه على السعي المستمر للمعرفة بغض النظر عن الصعوبات أو المسافات، مشيرًا إلى أن التعلم يجب أن يكون هدفًا مستدامًا يسعى إليه الإنسان طوال حياته. وبما أن نشر العلم واجب شرعي. حيث أكد الإمام أن نشر المعرفة هو واجب على كل من يمتلك العلم، وأن حجب المعرفة عن الناس يعد ظلمًا. يقول في إحدى حكمه: "العلم يزيد بكثرة الإنفاق، وينقص بكثرة الإمساك".
يشير هذا القول إلى أن المعرفة تزداد وتتوسع كلما تم نشرها ومشاركتها مع الآخرين. مؤكدا على استخدام كل الوسائل المتاحة لنشر المعرفة. من ذلك، التحدث في المجالس العامة، وكتابة الرسائل والكتب، وتعليم الأفراد بشكل مباشر. يرى أن تبسيط العلم وجعله في متناول الجميع هو أحد أهم مسؤوليات العالم.
- المحور الخامس: الوحدة والتماسك الاجتماعي
ركز الإمام علي (عليه السلام) على أهمية الوحدة بين أفراد المجتمع، ويحذر من التفرق والاختلاف الذي يمكن أن يؤدي إلى ضعف المجتمع وانهياره. في خطبة له يقول: "فيا أيها الناس، اجتمعوا على كلمة سواء بينكم ولا تفرقوا فإن في الفرقة الهلاك." ووضح في نهج البلاغة إلى تعزيز الوحدة والتماسك الاجتماعي بين أفراد المجتمع. في إحدى خطبه يقول: "كونوا في الناسِ كالنَّحلةِ في الطَّيرِ، ليس شيءٌ من الطَّير إلا وهو يستضعفُها، ولو يعلم الطَّيرُ ما في أجوافِها من البركةِ لم يفعلوا ذلك"(٥).
يدعو الإمام إلى التآزر والتعاون بين أفراد المجتمع، مما يساهم في خلق مجتمع قوي ومتماسك. ودعا الى الوحدة ويحذر من التفرق والاختلاف الذي يمكن أن يؤدي إلى ضعف المجتمع وانهياره. ومن أسس التماسك الاجتماعي هو العدل والمساواة بين الناس. ويعتبر الامام (عليه السلام) أن الظلم وعدم العدالة من الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى تفسخ المجتمع وزيادة التفرقة بين أفراده. حيث قال: "العدل أساس الملك." يشدد على أهمية التعاون بين الناس والعمل معًا لتحقيق الأهداف المشتركة، ويحث على مساعدة الآخرين ودعمهم واحترام حقوق الآخرين من أجل تحقيق التماسك الاجتماعي، يجب على كل فرد أن يحترم حقوق الآخرين وأن يتعامل معهم بالاحترام والكرامة.
وحدد سعادة المؤمن في قدرته على التسامح والعفو إذ يدعو عليه السلام إلى التسامح والعفو عن الآخرين، ويرى في ذلك سبيلاً لتعزيز الوحدة والتماسك الاجتماعي. قال: "اعف عن الناس كما تحب أن يعفوا عنك."
إن كتاب نهج البلاغة دستور متكامل لحياة المسلم، طرح فيه الامام علي "عليه السلام "جميع النقاط التي تعكس رؤيته وحرصه على وحدة المسلمين والحفاظ على مبادئ الاسلام التي كلف بها لأنه الوصي الخلف بعد رسول الله "صلى الله عليه وآله" وهي تعكس تعاليم الإمام ورؤيته العميقة والشاملة لحياة المؤمن في جميع ميادين الحياة ويقدم فيه الإمام نموذجًا لبناء مجتمع قائم على العلم والمعرفة وتأسيس مجتمع قائم على العدالة. حيث نسعى جميعًا لتحقيق مجتمع أكثر تقدمًا وعدلاً وتماسكًا من خلال التعليم ونشر المعرفة.
وضع الإمام علي أسسًا قوية لمجتمع عادل ومزدهر. تظل تعاليمه مصدر إلهام للعديد من المجتمعات الساعية إلى تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية.
اضافةتعليق
التعليقات