تستمد المحافل مصداقيتها وتشتهر بالعظمة، إذا احتفت بذكر الأولياء، وتهللت رفوف كتبها حروفا مزدهرة من تأريخها الصادق المضمخ بالإخلاص.
عند ابتداء الصلاة، نذكر أفراد الذكر ونخضب جباهنا من ترابها المبارك، ونسعى لتقبيل عطاياهم ونحن على أتم الهيام بهم. نتمنى الشفاء من التشتت مرة، ومرة أخرى نستجدي الصفاء.. وعلى أثر ذلك ترتقي هممنا وتذوب همومنا من كل تردد وتوتر ينتاب قلوبنا .
نحتاج إلى الصفوة في كل خطوة، نتقرب إليهم مساحة حديث أو رواية تجمعنا بهم، نستمع إلى تاريخهم الحافل بالتضحية والسخاء، تتورد وجوهنا إن ابتسمت شفاه الصراحة لتغدق من معارفهم الساخنة بالأحداث المثيرة والجديرة بالمتابعة .
نتعجب وقتها من قوة مواقفهم التي أعطت النموذج الأجلى للظروف الصعبة والتي لولاهم ما دامت ولا كتب لها القوة والمواجهة، فكانوا هم نعم العون في الشدائد يضرب بهم المثل الأعلى في المدلهمات .
نعم إنه مؤمن قريش أبا طالب عم الرسول، والسيدة خديجة بنت خويلد زوج الرسول المباركة المرأة المكنونة المختارة من الله لتكون أم للرسالة الغراء .
ما وجه المقارنة بين مؤمن قريش وخديجه عليهم السلام؟!
في كل طليعة ثورة أو البدء بتبيان نهجها، تحتاج إلى قوة داعمة من جهات يعتمد عليها لإزدهار كل تحول وترتيب الأولويات، وهذا يعتمد جدا على حكمة التحرك واستيعاب الأطراف، ربما يختلف أسلوب الدعم من حيث النموذج وبعض الأمثلة التي تطرح نفسها ..
في قضية الرسالة المحمدية، كان الدعم مستلهم من قوة الغيب وعمدة التوفيق الإلهي أولاً، أمرا لابد أن يثبت على أرض الواقع وذلك بعزيمة من النبي الأعظم (صلوات الله عليه وآله) وقوة تفاديه وتضحياته لتبليغ الرسالة السمحاء .
والأمر الثاني هو مثابرة الأطراف لاستدامتها عمليا وتجميع السواعد للالتفاف حول هذه الدعوة.
شواهد التاريخ أثبتت ذلك أن أجمع النفوذ المتمثل في وجاهة ومكانة شخص أبا طالب (عليه السلام) وحمايته لشخص الرسول (صلوات الله عليه)، فقد كان عنوان الأب المحامي والذاب عنه بمهجته وكان يشجع أبناءه في الدفاع عنه والوقوف إلى جانب كلمة دعوته مرّ ذات يوم وبصحبته ابنه جعفر، ورأى رسول الله يصلي وعن يمينه ابنه علي. قال لجعفر: صل جناح ابنك عمك. ثم مضى جعفر وصلى عن يسار رسول الله فاستبشر أبو طالب وقال: أن عليا وجعفر ثقتي .إلى أن استشهد (سلام الله عليه) بين يدي النبوة، والشاهد الآخر هو زوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد (سلام الله عليها) صاحبة أقوى نفوذ وقد فرض احترامها بقوة بين نساء مكة وذا ثروة مالية عظيمة كانت قد تنازلت عنها وعن كل غال ونفيس لأجل هذه الدعوة السماوية .
ومن الملاحظ عادة، وعلى مر ذاكرة التاريخ أن كل الأنبياء كانوا أصحاب مهن بسيطة أو نفوذ على قدر فأيدهم الله بمعاجزه ومساندتهم بدعائم تناسب البيئة وعقول المجتمع السائد آنذاك.
كذلك مع النبي الأعظم (صلوات الله عليه)، أيده الله بنصره ودعم خطواته بصفوتين كريمتين هم أبا طالب والسيدة خديجة (سلام الله عليهم)، كانت عنوان التضحية ماديا وعمليا لبيت النبوة، وحتى عاطفيا فقد تكفلت اجتماعيا دعمه دون تردد، الأمر الذي ترك أثرا بليغ الحزن في قلب الرسول، فكان يذكرها حرفيا في كل موقف وأمام كل غريم لها من شدة حبه واعتزازه بها..
(وتنقل أم سلمة أنه حينما كلمنه أزواجه في زواج فاطمة الزهراء وذكرن خديجة، بكى وقال: خديجة! وأين مثل خديجة؟ وأخذ في الثناء عليها).
كانت موفورة العقل فطينه، ذكية، تحب الخير وتبدأ به قبل الغير، ذات بصيرة حادة ووجاهة مقبولة واحترام بليغ عند مثيلاتها وشديدة بأس وحاذقة في اختيارها، فقد اختارت شخص الرسول واعتقدت به كليا ورأت به فارس أحلامها ومعين يدها، وكافل مسيرها في الحياة واكتشفت فيه صفات الغيب والكمال اللامتناهي فهو الثقة، والحزم والقوة والطاعة لله سبحانه والذوبان في ذات الله..
وعلى اجتماع هذه الصفات الخلقية في السيدة خديجة (سلام الله عليها)، اختارها الله لتكون أم للرسالة المحمدية وحاضنه أبنائها البررة فحازت على بصمة عظيمة ولقب جبار ووسام صدق لمن تبعها فهي أم المؤمنين والصديقة والعابدة بشهادة الله وملائكته .
فكانت محض هذه الآية الكريمة :
(السابقون السابقون أولئك المقربون).
قال رسول الله (صلوات الله عليه وآله):
أتاني جبرئيل فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك، ومعها إناء فيه إدام وطعام، فإذا هي أتتك فأقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
إذن نفهم من ذلك أن أبا طالب والسيدة خديجة (سلام الله عليهم) قد حازوا على وسام النصرة لرسول الله (صلوات الله عليه)، فكانوا هم الصفوة الذين اصطفاهم الله لهذه المهمة الصعبة والجبهة الموصدة بقفل الثبات وقد تحملوا الكثير من أجل كف الأذى وبواعث الخطط الخبيثة لقتل الرسول الأعظم على مدار حياته آنذاك، هذا التقارب في الأدوار الداعي لتحمل المسؤولية، كان فاعلا مهما لدفع مكارم هذه الدعوة إلى النصر، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، هنا نفهم لماذا ألم الحزن قلب الرسول الأعظم (صلوات الله عليه وآله) عند فقدان أعظم داعم له والأحب إلى قلبه.
ونكتفي بقول أحدهم حين قال :بهذه البصيرة النافذة، والروح العطوفة النبيلة، والكف السخية المعطاءة، وقفت مع رسول الله ووضعت كل ثروتها تحت تصرفه بالإضافة إلى الدعم المعنوي والروحي فكانت تشد من عزمه وتسانده. فعليك السلام منا يا أمنا الودود.
اضافةتعليق
التعليقات